فإن قلت: وكيف يمكن للعبد أن يعامل ربه بهذه المعاملات، وأن يستمر على ذلك طيلة حياته؟! كانت الإجابة بأنه من الأمور المعروفة بين الناس أنه على قدر معرفة الشخص بشخص آخر تكون درجة معاملته له، فلو قُدِّر لإنسان ما أن يجلس بجوار آخر في قطار مسافر إلى بلدة بعيدة، وبدأ الحديث بين الشخصين .. في بداية الحديث يكون الكلام بينهما فيه الكثير من التحفظ، ومع استمرار التعارف وتجاذب أطراف الحديث يزول التكلف وتتحسن درجة المعاملة كل منهما للآخر .. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لو اكتشف أحدهما أن الآخر صاحب منصب مرموق فإن نظرته له ستختلف عما كانت عليه في البداية وسينعكس ذلك - بلا شك - على طريقة تعامله معه.
فإذا ما نظرنا إلى معاملتنا وعلاقتنا بالله عز وجل فسنجدها معاملة جافة، وعلاقة محدودة .. فالذي يحكمها ويؤثر فيها هو درجة معرفتنا به سبحانه، فلو يعلم الناس قدر ربهم لخافوه ولاستقاموا على أمره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام:91).
وكلما ازداد جهل العباد بالله ازداد تصورهم الخاطئ عنه - سبحانه - وانكعس ذلك على شكل التعامل بينهم وبينه.
انظر - مثلًا - لقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:142).
فلقد سمى القرآن هؤلاء الذين يسألون هذا السؤال بالسفهاء الجهلة لأنهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون أن له ملك السموات والأرض، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
ومثال ذلك أيضًا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ? حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ? وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت:19 - 23).
فظن هؤلاء المحدود والقاصر عن الله عز وجل جعلهم يبتعدون عن صراطه المستقيم، مما أوردهم النار والعياذ بالله.
تأمل معي هذا الموقف الذي حدث لموسى عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:143).
في هذا الموقف طلب موسى - عليه السلام - من ربه رؤيته، فأخبره الله عز وجل بأنه لا يستطيع أن يراه وأقام له - سبحانه وتعالى - الدليل على ذلك بأنه لو تجلى سبحانه للجبل واستقر ذلك الجبل مكانه ولم يحدث له شيء فسوف يستطيع أن يراه ... ثم تجلى الله عز وجل للجبل فدكَّ الجبل وتحطم. فماذا حدث لموسى عليه السلام؟!