والمحالِّ غير ذاته الشَّريفة لعُلوِّ رتبته المنيفة. وكم ممَّن نأت عنه ديارُه، وطالت في لقيِّه أسفارُه، ممَّن -ربما- يكون أقدمَ منه ميلادًا قصده للأخذ عنه دراية وإسنادًا. وهذا لعَمْري كافٍ في الدِّلالة على فخره وسمُوِّ محله وقدره.
وقد صار الرؤوس في الدُّنيا في زمنه مَنْ أخذ عنه لفصاحته ولَسَنِه، حتَّى وليَ قضاءَ الشَّافعية ببلده في حياته غيرُ واحد مِمَّن تحمَّل عنه، فكيف بعد مماته. وكذا كان قاضي المالكية والحنابلة بها ممَّن هرع لبابه، وعدُّوا أنفسهم مِنْ تلامذته وطُلَّابه، وولي الشَّام أيضًا في حياته العلَّامةُ الوَنَائي، الفائق في علومه وتدقيقاته، وغير واحد ممَّن عدَّ في أصحابه، وصيَّره شيخًا له مع تحرِّيه وانتخابه. وكان قاضي الشافعية والحنفية بحلب في أيامه مِنْ أكبر الآخذين عنه، الناشرين لعلوِّ مقامه. وأمّا مِنْ كان مِنْ طلبته في قضاء مكَّة المشرَّفة، فالشافعي والمالكي الفاسي الفائق في الحفظ والمعرفة.
إلى غير ذلك ممَّا يطول استيعابه، ويعسُرُ في الحالة الرَّاهنةُ انتخابُه، مع أن جلالته بدونه معلومة مقرَّرة، وسيادته في الخافقين قبله وبعده منتشرة، غير أَنَّها في فخر المنسويين إليه أليقُ، وعند ذكر المتلمذين لجنابه أوفق، رفعهم اللَّه إلى المحل الأسنى، وختم لنا ولهم بالحسنى، بمنِّه وكرمه.
وطال ما مثل الأبناسي والونائي والقاياتي بين يديه، بجانب الكرسيِّ الموضوع لجلوس القارىء عليه.
وقد كنتُ عزمتُ أولًا أك أذكر تراجمهم مكملًا، ثم رأيتُ أن الأولى إفرادهم في تأليفٍ، مع التنبيه على مَنْ يدخل منهم في أنواع علوم الحديث الشريف، كرواية كلٍّ مِنَ الفريقين (?) عن صاحبه، والسابق واللَّاحق، ممَّا يشهدُ لعلوِّ مراتيه، والكبير عن الصَّغير، والمتَّفق والمفترق، والمؤتلف والمختلف، إلى غير ذلك مِنَ اللَّطائف، كالقول بأن فيمن أخذ عنه ممَّن يحفظُ "الشفاء" الميمونيُّ والشَّبراوي وغيرهما، وممن يحفظُ "المصابيح"