ومأجورٌ فِيمَا خَفِي عَنهُ وَلم يبلغهُ أجرا وَاحِدًا. قَالَ الله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام] .
وَقد يبلغ الرجل مِمَّن ذكرنَا نصان ظاهرهما التَّعَارُض، فيميل إِلَى أَحدهمَا بضربٍ من الترجيحات، ويميل غَيره إِلَى النَّص الَّذِي ترك الآخر بِضَرْب من الترجيحات أَيْضا، كَمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان فِي الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ: أَحَلَّتْهُمَا آيةٌ وحرمتهما آيةٌ.
وكما مَال ابْن عمر إِلَى تَحْرِيم نسَاء أهل الْكتاب جملَة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} [الْبَقَرَة] وَقَالَ: لَا أعلم شركا أَكثر من قَول الْمَرْأَة: إِن عِيسَى رَبهَا، وَغلب ذَلِك على الْإِبَاحَة المنصوصة فِي الْآيَة الْأُخْرَى. وَمثل هَذَا كثير.
فعلى هَذِه الْوُجُوه ترك بعض الْعلمَاء مَا تركُوا من الحَدِيث وَمن الْآيَات، وعَلى هَذِه الْوُجُوه خالفهم نظراؤهم، فَأخذ هَؤُلَاءِ مَا ترك أُولَئِكَ. وَأخذ أُولَئِكَ مَا ترك هَؤُلَاءِ، لَا قصدا إِلَى خلاف النُّصُوص، وَلَا تركا لطاعتها، وَلَكِن لأحد الْأَعْذَار الَّتِي ذَكرنَاهَا، إِمَّا من نِسْيَان وَإِمَّا أَنَّهَا لم تبلغهم، وَإِمَّا لتأويل مَا، وَإِمَّا لأخذ بِخَبَر ضَعِيف لم يعلم الْآخِذ بِهِ ضعف رُوَاته وَعلمه غَيره، فَأخذ بِخَبَر آخر أصح مِنْهُ، أَو بِظَاهِر آيَة. وَقد يتَنَبَّه بَعضهم فِي النُّصُوص الْوَارِدَة إِلَى معنى، ويلوح لَهُ مِنْهُ حكم بدليلٍ مَا، ويغيب عَن غَيره.
ثمَّ كثرت الرحل إِلَى الْآفَاق، وتداخل النَّاس، وانتدب أَقوام لجمع حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضمه وتقييده، وَوصل من الْبِلَاد الْبَعِيدَة إِلَى من لم يكن عِنْده، وَقَامَت الْحجَّة على من بلغه شيءٌ مِنْهُ، وجمعت الْأَحَادِيث المبينة لصِحَّة أحد التأويلات المتأولة فِي الحَدِيث. وَعرف الصَّحِيح من السقيم، وزلف الِاجْتِهَاد الْمُؤَدِّي إِلَى خلاف كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِلَى ترك عمله، وَسقط الْعذر عَمَّن خَالف مَا بلغه من السّنَن ببلوغها إِلَيْهِ، وَقيام الْحجَّة بهَا عَلَيْهِ، فَلم يبْق إِلَّا العناد والتقليد.
وعَلى هَذِه الطَّرِيقَة كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وكثيرٌ من التَّابِعين يرحلون فِي طلب الحَدِيث الْأَيَّام الْكَثِيرَة، طلبا للسنن، والتزاماً لَهَا، وَقد رَحل أَبُو أَيُّوب من الْمَدِينَة إِلَى مصر فِي حَدِيث وَاحِد إِلَى عقبَة بن عَامر، ورحل عَلْقَمَة وَالْأسود إِلَى