وَجُمْهُور الْبَصرِيين - لِأَن الشَّاعِر لَهُ أَن يصرف فِي الشّعْر مَا لَا ينْصَرف فِي الْكَلَام، وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ صَرْفِ المنصرف. وَكَانَ الْأَخْفَش يُجيزُ ذَلِكَ وَهُوَ مذهبُ الْكُوفِيّين، وَقد اسْتشْهدُوا بأَشْيَاء وَردت عَلَيْهِم فِيهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع استقصاء هَذَا الْبَاب لكنّا آثرنا ذكر جملَة مِنْهُ يقفُ بِهَا ذُو الْفَهم على الأَصْل فِيهِ، وَيجْرِي عَلَيْهِ قِيَاس بَاقِيه. وَالَّذين أَبَوا ترك صرف مَا لَا ينْصَرف فِي الشّعْر يعتلونَ بأنَّ الشَّاعِر إِذا اضْطر إِلَى مَا يُتَنَكّبُ فِي منثور الْكَلَام رَجَعَ إِلَى أَصله وَلَيْسَ لَهُ مُفَارقَة الأَصْل وهدمه؛ وَالْأَصْل فِي الْأَسْمَاء الصّرْف، فَإِذا عَرَضَ فِي شيءٍ مِنْهَا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ استجيزَ فِي الشّعْر كوب الصّرْف حَملا على الأَصْل. فأمّا ترك صرف الْمصر وف فنقضُ مَا بني الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أَصله.
وَالَّذين أَجَازُوا هَذَا تعلقوا بِأَبْيَات أنشدوها على هَذَا الْوَجْه الَّذِي عابهم عَلَيْهِ يه مخالفوهم. وَقد دفع الْأَولونَ مَا رَوَوْهُ عَنْهُم وأنشدوا كثيرا مِنْهُ على خلاف إنشادهم. فأمَّا وَجه ترك صرف هَاشم فِي الْبَيْت الَّذِي أَتَى فِي هَذَا الْخَبَر وَنَظِيره من الْأَسْمَاء فَلِأَنَّهُ ذهب بِهِ مَذْهَب الْقَبِيلَة دون اسْم الرجل، وَدون حمله على أَن اسْم الْحَيّ. وَإِن مثل هَذَا فِي الشّعْر كَثِير. وَهَذَا كَقَوْلِهِم حضرت قُرَيْش ومعدُّ وثقيفُ وَمَا لَا يُقال فِيهِ بَنو فلَان، أَلا ترى أَنَّهُ لَا يُقال بَنو قُرَيْش وَلَا بَنو ثَقِيف. وَقَالَ الشَّاعِر:
غلب المساميحَ الوليدُ سماحةً ... وَكفى قريشَ المعضلاتِ وسادَها
وَقَالَ آخر:
بَكَى الخزُّ من روحٍ وَأنكر جلدَه ... وعجَّت عجيجًا من جذامَ المطارفِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
ولسنا إِذا عدَّ الْحَصَا بأقلَّةٍ ... وَإِن معدَّ اليومَ مودٍ دليلُهَا
وَمثله باهلة، وَهُوَ اسْم امرأةٍ لَا يُقالُ فِيهِ بَنو باهلة إِلَّا أَنَّهُ لَا يصرف وَإِن جُعِلَ اسمَ الحيّ من أجل التَّأْنِيث. وَنَظِير مَا وَصفنَا سبأ قد صُرِفَ وَترك صرفه، وَاخْتلف الْقُرَّاء فِيهِ فَصَرفهُ بَعضهم وَلم يصرفهُ بَعضهم، وأجراهُ بَعضهم على مَذْهَب الْحِكَايَة، وروى فَرْوَة - صَوَابه فَرْوَة بن مُسَيك الْغَطَفَانِي - عَن النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سَأَلَ عَن سبأ أهوَ اسْم أَرض أم امْرَأَة، فَقَالَ: لَيْسَ بِأَرْض وَلَا امْرَأَة وَلكنه رجلٌ ولد عشرَة فتيامن مِنْهُم أَرْبَعَة وتشاءم سِتَّة. وَقد أَتَى فِي الْعَرَبيَّة مصروفًا وَغير مَصْرُوف قَالَ النَّابِغَة:
من سبأ الحاضرينَ مأربَ إِذْ ... يبنونَ من دون سيله العَرِمَا
وَلم يذكر شَيْئا مِمَّا جَاءَ مِنْهُ مصروفًا فِي الشّعْر إِذْ لَا حجَّة فِيهِ من أجل جَوَاز صرف مَا ينْصَرف فِيهِ. وَبَيت النَّابِغَة هَذَا يشْهد لقَوْل من قَالَ: العرمُ المسنَّاة أَو الْبناء، ونصبه العرم بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يبنون كَأَنَّهُ قَالَ: يبنون العرم من دون سيله. وقصة مأرب والعرم من مَشْهُور الْقَصَص، قَالَ الْأَعْشَى: