فِي الأَرْض، فَنَادَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثًا بِهِ ولاجئًا إِلَيْهِ فِي استنقاذه مِمَّا وَقع فِيهِ، وتائبًا مِمَّا قصد لَهُ ومنيبًا مِمَّا سلف من كفره، فَدَعَا الله تَعَالَى لَهُ حَتَّى نجاه مِمَّا نزل بِهِ، وَصَحب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عَنْهُ رواياتٍ من أخباره وسننه وآثاره. وَقد ألَّف العلماءُ فِي أَعْلَام النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآياته الْكثير الَّذِي يحجّ من بلغه ويقطَعُ عُذْرَ من انْتهى إِلَيْهِ، ولعلي بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي كتابٌ ضمَّنه من دَلَائِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآياته خَمْسمِائَة آيَة أَو نَحوها، وَلَو لَمْ يكن لَهُ من الشواهد على رسَالَته والدلائل على نبوّته إِلَّا الْكتاب الَّذِي أَتَى بِهِ من وَحي الله تَعَالَى إِلَيْهِ وتنزيله جلَّ اسْمه عَلَيْهِ، الَّذِي ذلَّت لَهُ الرّقاب، وبَهر بنوره ألبابَ ذَوي الْأَلْبَاب، لَكَانَ ذَلِكَ بليغًا كَافِيا، وحاسمًا للشكِّ وَمن أدوائه شافيًا، وَهُوَ فِي أَيْدِينَا إِلَى حَيْثُ انتهينا نتلوه ونقرأه فِي محاريبنا وصلواتنا، ونرسمه فِي صحفنا وَمَصَاحِفنَا، وتعلّمه أبناءَنا وعبيدَنَا وإماءَنا، وَلَا يزْدَاد إِلَّا بهاءً وإشراقًا وضياء وائتلاقًا، وَلَا يزْدَاد الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا عياء بِمعارضته وعجزًا عَن مقاومته. وَقد رتبنا القَوْل فِي وَجه إعجازه ومفارقته أَنْوَاع كَلَام البلغاء والفصحاء بِما خصَّه الله بِهِ من بديع نظمه وَعَجِيب رسمه مَا كَانَ كَافِيا من غَيره.
وَقَول سراقَة: " لأمتي " اللأمة: الدرْع، يجمع لُؤَمًا على غير قِيَاس، قَالَ الْأَعْشَى:
وقوفًا بِما كَانَ من لأمةٍ ... وهنَّ صيامٌ يَلُكن اللُّجُمْ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْجَمَّالُ سنة ستّ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ قَالَ، حَدَّثَنِي نَجِيحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزِّمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلام فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ فعالمٌ ربَّاني، ومتعلّمٌ عَلَى سَبِيلِ نجاةٍ، وهمجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كلِّ ريحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعلم وَلم يلجأوا إِلَى ركنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْعِلْمُ خيرٌ لَكَ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَاتُ، وَمَحَبَّةُ الْعِلْمِ دينٌ يُدَانُ بِهِ يَكْسِبُهُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ محكومٌ عَلَيْهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلْ أَصَبْتُ لَهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يسْتَعْمل لَهُ آلَة الدَّين بالدنيا، يَسْتَظْهِرُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَبِحُجَّتِهِ عَلَى كِتَابِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْدَحُ الشكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عارضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، فَلا ذَا وَلا ذَا، أَوْ مَنْهُومًا بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرَمًا