وأمّا قَول الْعَاصِ بن وَائِل - فضَّ الله فَاه، وقبَّحه وأخزاه، وأبعده وأقصه - فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله واصطفاهُ وأكرمه واجتباه، وَرفع قدره وَأَعلاهُ، إنّه " أَبتر " على مَا كَانَت العربُ تَقوله فِي من لَا ولد لَهُ يُذكر بِهِ بعده هُوَ أَبتر، أَي مُنْقَطع الذّكر، فَحسب نبيّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَول الله جلّ ذكره فِي كِتَابه: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشَّرْح:4 ". وَقَالَ فِي عدوّه وعدوّ رَسُوله: " إنَّ شائنك هُوَ الأَبْتَرُ " " الْكَوْثَر:3 "، فَوَسمه الله عَزَّ وَجَلَّ بِهذه السِّمة الَّتِي لَا تُرحضُ وَلَا تُغْسَل، وَلَا تُمْحَى وَلَا تُبدل، كَمَا وسم أَبَا جهل بِهذه الكنية على لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَت عَيْبا لَازِما، وعارًا وَاقعا بِهِ دَائِما، حتَّى كَانَ مِمَّا قيل فِيهِ من الشّعْر المتضمّن لِهذا الَّذِي وسم بِهِ:
النَّاس كنّوه أَبَا حكمٍ ... وَالله كنَّاه أَبَا جهل
وَمِمَّا يحقُّ لِذَوي الْأَلْبَاب أَن ينعموا التفكر فِيهِ قَول الله عَزَّ وَجَلَّ لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشَّرْح:4 ". جَاءَ فِي التَّفْسِير: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ معي. أَلا ترى أَن الشَّهَادَة لَهُ بالرسالة مقرونة بِالشَّهَادَةِ لله عزَّ وَجَلَّ بالربوبية، فَلَنْ يدخلَ أحدٌ الْإِسْلَام إِلَّا بِهما، وَأَنه يُذْكَرُ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، والغدوّ وَالْآصَال، ويكرَّر ذكره فِي الْأَذَان وإقام الصَّلَاة والإمامة لَهَا على ترادف السَّاعَات وتتابع الْأَوْقَات، وَأَن آدم عَلَيْهِ السَّلام الَّذِي كلُّ آدميٍّ ولدُهُ إِنَّما يُذْكَرُ فِي الأحيان والإبّان بعد الإبَّان وَفِي الفينة بعد الفينة عِنْدَمَا يعرض من ذكره أَو تُلِيَ من الْقُرْآن مَا تقتصُّ فِيهِ قصَّته، وَهَذَا مِمَّا فَكرت فِيهِ واستخرجته وَمَا علمت أحدا سبقني إِلَيْهِ وَلَا تقدَّمني فِي استنباطه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا العكلي عَن ابْن الْكَلْبِيّ عَن عوَانَة، عَن رجلٍ من قُرَيْش من سَاكِني الْكُوفَة قَالَ: قدم نُصَيب الْكُوفَة فوجَّهني أبي إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ صديقا، فَقَالَ: أبلغه عني السَّلام وَقل لَهُ: يقولُ لكَ أبي إِن رَأَيْت أَن تُهْدي إليَّ شَيْئا من قَوْلك فعلت. فَأَتَيْته فِي يَوْم جُمُعَة وَهُوَ يُصلي، فأمهلتُ حَتَّى قضى صلَاته ثُمَّ أَقرَأته السَّلام وأديتُ إِلَيْهِ الرسَالَة، فردَّ وَأحسن ثُمَّ قَالَ: قد علم أبوكَ أَنِّي لَا أُنْشِدُ الشّعْر فِي يَوْم الْجُمُعَة، وَلَكِن تعودُ وَيكون مَا تُحبّ، فَلَمَّا ذهبت لأنصرفَ دَعَاني فَقَالَ لي: أتروي الشّعْر؟ قلت:
نعم، قَالَ: فأنشدني لجميل فَأَنْشَدته:
إِنِّي لأحفظُ سرَّكم ويسرُّني ... لَو تعلمين بصالحٍ أَن تُذْكَري
وَيكون يَوْمًا لَا أرى لَك مُرْسلا ... أَو نَلْتَقِي فِيهِ عليَّ كأشهر
يَا لَيْتَني ألْقى المنيةَ بَغْتَة ... إِن كَانَ يومُ لقائكمْ لَمْ يُقْدَرِ