هَذِه سَبيله، تخْتَار لي وَيحك رجلا تصفه بِكُل الصِّفَات فأتقدم إِلَيْهِ بِمَا كنت حاضره، فَلَا يكْتب من بَغْدَاد إِلَى أَن يوافى الرحبة إِلَيْك كتابا فِي معنى مَا أعْتَمد عَلَيْهِ فِيهِ:؟! قَالَ: فَكتب يحيى إِلَى أَحْمَد كتابا أغْلظ لَهُ المخاطبة وأسمعه فِيهِ الْمَكْرُوه وَيَقُول لَهُ: إِنَّمَا أشخصناك لما تقدمنا بِهِ إِلَيْك، وَأَنا إِنَّمَا أظهرنَا تقليدك الْمَظَالِم ليتيسر مَا أمرت بِهِ، فَمَا هَذِه الْغَفْلَة وَمَا هَذَا الْجَهْل بِمَا يُرَاد مِنْك؟ فورد الْكتاب على أَحْمَد فقرأه واحتفظ بِهِ، وَسَار المعتصم من الرحبة حَتَّى وافى الرقة، فَدَعَا الْمَأْمُون بِيَحْيَى فَقَالَ لَهُ: يَا سخين الْعين، هَذَا مِقْدَار رَأْيك وعقلك؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون غررتني مُعْتَمدًا، وأوطأتني العشوة قصدا أَولا فتجيئني بِرَجُل تعلم موقعه عنْدك وتطلعني على الْوُقُوف عَلَيْهِ فتصفه وتقرظه حَتَّى أودعته سرا من أسراري وأمرًا أقدمه على كل أموري، فَمضى من مَدِينَة السَّلَام إِلَى ديار مصر فَلم يكْتب يحرفٍ مِمَّا أَمر بِالْكتاب بِهِ؟! فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من يعْمل بِغَيْر مَا يُؤَدِّي إِلَى محبتك ويقود إِلَى إرادتك فأذاقه الله بأسك، وَألبسهُ نكالك، وصب عَلَيْهِ عذابك.
وَكتب إِلَى أَحْمَد كتابا يشْتَمل على كل إيعاد وإرهابٍ وتخويف وتحذير، وخاطبه بأوحش مخاطبةٍ وأنكلها، فورد الْكتاب على أَحْمَد فقرأه واحتفظ بِهِ.
وَأمر الْمَأْمُون عَمْرو بْن مسْعدَة أَن يكْتب إِلَى أَبِي إِسْحَاق المعتصم كتابا يَأْمُرهُ فِيهِ بالبعثه بأَحْمَد بْن أبي دواد مشدودة يَده إِلَى عُنُقه، مُثقلًا بالحديد، مَحْمُولا على غير وطاء. فورد الْكتاب على المعتصم، وَدخل أَحْمد بن أبي دواد إِلَيْهِ وَهُوَ بالرقة مَا جاوزها، فَرَأى المعتصم كئيبًا مغمومًا، فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير أَرَاك متغيرًا وَأرى لونك حَائِلا، فَقَالَ: نعم لكتابٍ ورد عَليّ من أَجلك، ونبذ إِلَيْهِ بِالْكتاب فقرأه أَحْمَد، فَقَالَ لَهُ المعتصم: تعرف لَك ذَنبا يُوجب مَا كتب بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: مَا اجترمت ذَنبا، إِلَّا أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يسْتَحل هَذَا مني إِلَّا بحجةٍ، فَمَا الَّذِي عِنْد الْأَمِير فِيمَا كتب بِهِ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يُخَالف لكني أعفيك من الغل وَالْحَدِيد، أحملك إِلَيْهِ على حَال لَا توهنك وَلَا تؤلمك وأوجه بك مَعَ غلامٍ من غلماني أتقدم إِلَيْهِ فِي ترفيهك وَأَن لَا يعسفك، فَقَالَ: جَزَاك الله أَيهَا الْأَمِير أفضل مَا جازى منعمًا، فَإِن رأى الْأَمِير أَن يَأْذَن لي فِي الْمصير إِلَى منزلي وَمَعِي من يراعيني إِلَى أَن يردني إِلَى مجْلِس الْأَمِير فيأمر بأَمْره فعل، فَقَالَ لَهُ: امْضِ؛ وَوجه مَعَه خَادِمًا من خدمه، فَصَارَ أَحْمَد إِلَى منزله واستخرج الْكتب الثَّلَاثَة الَّتِي كَاتبه بهَا يحيى بْن أَكْثَم وهم بالأنبار، وَالْكتاب الَّذِي ورد وهم بالرحبة، وَالْكتاب الَّذِي ورد وهم بالرقة، وَرجع إِلَى المعتصم فَأَقْرَأهُ الْكتاب الأول ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِث وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بعثت لأكتب بأخبارك وأتفقد أحوالك وأكاتب يحيى بذلك ليقرأه على أَمِير الْمُؤمنِينَ فخالفت ذَلِك لما رجوته من الحظوة عنْدك وَلما أملته فِي غدك. فاستشاط المعتصم غَضبا وَكَاد يخرج من ثِيَابه غيظاً وَتكلم فِي يحيى بِكُل مَكْرُوه وتوعده بِكُل بلاءٍ وَقَالَ: ويلي على