إِلَيْهَا فَجَاءَت وجاءتْ بِمَا جهزها بِهِ موفرًا، فَلَمَّا نظرت إِلَى عَبْد اللَّه خَرَّتْ مغشيًا عَلَيْهَا، وأهوى إِلَيْهَا عَبْد اللَّه وَضمّهَا إِلَيْهِ.
وَخرج الْعِرَاقِيّ وتصايح أَهْل الدَّار: عمَارَة عمَارَة، فَجعل عَبْد اللَّه يَقُولُ ودموعه تجْرِي: أحُلْمٌ هَذَا؟ أحقٌ هَذَا؟ مَا أصدق هَذَا! فَقَالَ لَهُ الْعِرَاقِيّ: جعلت فداءك، ردهَا اللَّه عَلَيْك بإيثارك الْوَفَاء وصبرك عَلَى الْحق، وانقيادك لَهُ، فَقَالَ عَبْد اللَّه: الْحَمد لله، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي صبرت عَنْهَا، وآثرتُ الْوَفَاء وسلمتُ لأمرك، فرددتها عليَّ بمنّك، وَلَك وَالْحَمْد.
ثُمّ قَالَ: يَا أَخا الْعرَاق! مَا فِي الأَرْض أعظم مِنَّةً مِنْك، وسيجازيك اللَّه تَعَالَى.
فَأَقَامَ العراقيُّ أَيَّامًا، وَبَاعَ عَبْد اللَّه غنما لَهُ بِثَلَاثَة عشر ألف دِينَار، وقَالَ لقهرمانة: احملها إِلَيْهِ، وَقل لَهُ: اعذر وَاعْلَم أَنِّي لَو وصلتكَ بكلِّ مَا أملك لرأيتك أَهلا لأكْثر مِنْهُ.
فَرَحل العراقيّ مَحْمُودًا وافر الْعِرْض وَالْمَال.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عجلَان أَبُو بَكْر، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَمِيد بْن إِسْمَاعِيل بْن عَبْد الْحَمِيد بْن يَحْيَى، عَنْ عمّه أَيُّوب بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: لما استُخْلِف الْوَلِيد كتب إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ: أَن أَشْخِص إليّ عَطَرَّدَ الْمُغنِي قَالَ عَطَرَّد: فَدفع إليّ الْعَامِل الْكتاب فَقَرَأته، وَقلت: سمعا وَطَاعَة.
فَدخلت عَلَيْه فِي قصره وَهُوَ قاعدٌ عَلَى شَفير بِرْكة لَيست بالكبيرة، يَدُور فِيهَا الرَّجُل سباحة، فواللَّهِ مَا كلمني كلمة حَتَّى قَالَ: أعَطَرَّد؟ فَقلت: لبَّيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: غنني حَيِّ الْحُمُول. قَالَ عَطَرَّد: فغنيتُ:
حَيّ الْحُمُولَ بِجَانِب العَزْلِ ... إذْ لَا يُناسِبُ شَكْلُها شَكْلِي
اللَّهُ أنجحُ مَا طلبتَ بِهِ ... والْبِرُّ خيرُ حقيبة الرَّحْلِ
إِنِّي بحبْلِك واصلٌ حَبْلِي ... وبِريش نبلك رائشٌ نَبْلِي
وشَمَائِلي مَا قَدْ علمتَ وَمَا ... نَبَحَتْ كلابُك طَارِقًا مِثّلي
قَالَ: فواللَّهِ مَا تكلم بِكَلِمَة حَتَّى شقّ بُرْدةً صنعانية عَلَيْه - مَا يدْرِي مَا ثمنهَا - نِصْفَيْنِ فَخرج مِنْهَا كَمَا وَلدته أُمّه، ثُمّ رمى بِنَفسِهِ فِي الْبركَة فنهل مِنْهَا حَتَّى تعرفت فِيهَا النُّقْصَان فَأخْرج مِنْهَا مَيتا سُكْرًا، فَضربت يَدي إِلَى الْبردَة فأخذتها فواللَّهِ مَا قَالَ لي الْخَادِم خُذْهَا وَلا دعها، وانصرفت إِلَى منزلي وَأَنا أفكِّر فِيهِ وَفِيمَا رَأَيْت مِنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد دَعَاني فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، وَهُوَ قَاعد فِي مثل ذَلِكَ الْموضع، فَقَالَ: عَطَرَّد؟ قُلْتُ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: غنني، فغنيته: