لَعَمْرُكَ لَا أنسى غَدَاة الْمُحَصَّبِ ... إِشَارَة سلمى بالبنان المخضب
وَقَدْ صَدَر الْحُجّاجُ إِلا أَقَلَّهُمْ ... مَصادر شَتّى موكبًا بعد مَوْكب
قَالَ: فأعجبتْه، قَالَ لَهُ: كم قصيدتك بَيْتا؟ قَالَ لَهُ: سِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ بَيْتا، فَأمر لَهُ بِعَدَد أبياتها ألوفًا، فَكَانَ ذَلِكَ رَسْمُ مَرْوَان حَتَّى مَاتَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حثنا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَصْمَعِيّ.
قَالَ: كُنْت يَوْمًا عِنْد هَارُون أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقدمت إِلَيْهِ فالوذجة، فَقَالَ: يَا أصمعي! قُلْتُ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَدِيث مُزَرَّد أَخِي شَماخ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن مُزَرَّدًا كَانَ غُلَاما نَهِمًا جَشِعًا، وَكَانَت أمُّهُ تُؤْثِرُ عيالها بالزَّاد عَلَيْه، وَكَانَ ذَلِكَ يغيظه ويَغُمُّه، فَذَهَبت أُمّه يَوْمًا فِي بعض حُقُوق أَهلهَا وخَلَّفَتْ مُزرَّدًا فِي رَحْلِها، فَدخل الْخَيْمَة وَأخذ صَاعَيْ دقيقٍ وصاعَ عجوةٍ وصاعَ سَمْن، فَضرب بعضه بِبَعْض وَأكله، ثُمّ أنشأ يَقُولُ:
وَلما مَضَتْ أُمِّي تزورُ عِيالها ... أَغَرْتُ عَلَى الْعِكْمِ الَّذِي كَانَ يُمْنَعُ
خلِطتُ بِصَاعَيْ حِنطة صَاعَ عجوةٍ ... إِلَى صاعِ سمنٍ وَسْطُهُ يتربَّعُ
ودَبَّلْتُ أَمْثَال الأثافي كَأَنَّهَا ... رُءُوس نقادٍ قُطِّعَتْ يَوْمَ تُجْمَعُ
وَقلت لبطني أشْبع الْيَوْم إنَّه ... حِمَى أُمِّنا مِمَّا تفِيد وَتجمع
فَإِن كنت مَصْفُورًا فَهَذَا دواؤه ... وَإِن كُنْت غرثاناً فَذا يوْم تشبعُ
قَالَ: فاستضحك هَارُون حَتَّى أَخَذَ عَلَى بَطْنه، واستلقى. ثُمّ قعد، فَمد يَده وقَالَ: خُذُوا باسم اللَّه.
قَالَ القَاضِي: قَوْله: كَانَ غُلَاما نَهِمًا، يَعْنِي حَرِيصًا عَلَى الْأكل وَهُوَ كالشَّرِه والجَشِع، يُقَالُ: نهم يَنْهَمُ نَهَمًا فَهُوَ نَهِم، مثل شَرِهَ يَشْرهُ شَرَهًا ويُقَالُ أَيْضا: رَجُل منهوم، وَقَدْ قَدَّمنا القَوْل فِي ذَلِكَ.
والنِّقادُ: الْغنم الصغار الَّتِي هِيَ شرطٌ لَيست خِيرات وَلا حَرَزَات، يُقَالُ لَهَا: نَقَد، كَمَا قَالَ الراجز:
لَو كُنْتُمُ شَاءً لكنتُمُ نَقَدَا
وَقَول مزردٍ يخاطبُ بَطْنه: فَإِن كُنْت مصفورًا، يَعْنِي: وَإِن كَانَ بك الصَّفَرُ وَهُوَ دَاء فِي الْبَطن يهيج الْجُوع عَلَى صَاحبه، قَالَ الشّعْر:
لَا يغمزُ السَّاقَ من أَيْن وَلا نَصَبٍ ... وَلا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ