الله المتحابين بِفضل تواصلهم فجازاك الله أفضل مَا جزى بِهِ أَخا، فوَاللَّه لَئِن سلمتُ لَك لأرفعنَّ ناظرك، ولأعْلِيَنّ كعبك، ولأتبعَنّ الرِّجَال غُبار قدمك، قَالَ: فَقلت: يَهْزأ بِي، فَلَمّا وصلتُ إِلَى عَبْد الْملك أدناني حَتَّى أجلسني مجلسي الأوّل، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْن طَلْحَة لَعَلَّ أحد من النّاس شاركك فِي نصيحتك؛ قَالَ: قلت: لَا وَالله، وَلَا أعلم أحدا كَانَ أظهر عِنْدِي مَعْرُوفا وَلَا أوضح يدا من الحَجَّاج، وَلَو كنت محابيًا أحدا بديني لَكَانَ هُوَ، وَلَكِن آثرت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالْمُسْلِمين، فَقَالَ: قَدْ علمت أنَّكَ آثرت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَلَو أردْت الدُّنْيَا لَكَانَ لَك بالحجاج أمل، وَقد أزلتُ الحَجَّاج عَنِ الْحَرَمَيْنِ لمّا كرهتُ من ولَايَته عَلَيْهِمَا، وأعلمته أنَّكَ استنزلتني لَهُ عَنْهُمَا استصغارًا لَهما، ووليته العراقين لما هُنَا من الْأُمُور الَّتِي لَا يَرْحَضُها إِلَّا مثله، وأعلمته أنَّكَ استدعيتني إِلَى التَّوْلِيَة لَهُ عَلَيْهِمَا استزادة لَهُ ليلزمه من ذِمَامك مَا يُؤدي بِهِ عني إِلَيْكَ أجر نصيحتك، فَاخْرُج مَعَه فَإنَّك غَيْر ذامٍّ صحبته مَعَ تقريظه إياك ويدك عِنْدَهُ، قَالَ: فخرجتُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَة.
قَالَ أَبُو بَكْر بْن أبي الْأَزْهَر: يَرْحَضُها يَعْنِي يغسلهَا، قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: الرحض: الْغسْل، وَمِنْه سميت الأخلية المراحيض، وَجَاء فِي خبر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ذكرت فِيهِ الْخُرُوج إِلَى الْأَقْضِيَة للْحَاجة وَذَلِكَ قَبْلَ أَن يتَّخذ النّاس المراحيض، وَمن ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ وَقد سُئِلَ عَنِ الطَّبْخ فِي قدور الْمُشْركين " أرْحِضُوها بِالْمَاءِ: وَمن ذَلِكَ الرُّحَضَاء فِي الْحمى وَذَلِكَ حِين يعرق صَاحبهَا، كَمَا قيل فِيهَا الثُّؤَبَاء من التثاؤب، والْمُطَواء من التمطي، والْعُرُواء إِذَا أعرت، من قَوْلهم عر يعرو، وَقيل لَهَا رُحَضَاء إِمَّا لِأَن العَرَق مؤذِنٌ بانصرافها فَكَأَنَّهُ أماطها وغسلها، وَإِمَّا لِأَن المحموم إِذا عرق شبه بالمغتسل بِالْمَاءِ، وَقَول عَبْد الْملك لإِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة فِي هَذَا الْخَبَر: أعلمتَ الحَجَّاج فِي موضِعين، كَلَام غير خَارج على طَرِيق الصِّحَّة وَالتَّحْقِيق، وَذَلِكَ لِأَن الْإِعْلَام هُوَ إِلْقَاء الشَّيء الصَّحِيح الَّذِي يَقع بِمِثْلِهِ الْعِلْم للملقَى إِلَيْهِ، فَأَما مَا لَا حَقِيقَة لَهُ فَلا يُقَالُ أعلمت أحدا بِهِ، وَلَو كَانَ أخبرتُه مَكَان أعلمته لَكَانَ الْكَلَام مُسْتَقِيمًا، لِأَن الْمعلم لَا يكون إِلَّا محقًا، والْمُخْبر قَدْ يكون محقًّا ومبطلا، أَلا ترى أنَّ رَجُلا لَوْ قَالَ لعبيده: من أعلمني مِنْكُمْ بقدوم زَيْدُ فَهُوَ حُرّ، فَقَالَ لَهُ قَائِل مِنْهُم: قَدْ قَدِمَ زَيْدُ وَهُوَ كَاذِب، لَمْ يعْتق، وَلَو كَانَ قَالَ: من أَخْبرنِي مَكَان من أعلمني لعتق هَذَا الْمخبر، وَكَذَلِكَ لَوْ أخبرهُ مخبر بِهَذَا مِنْهُم بَعْدَ أَن يقوم الْعلم لَهُ لَمْ يعْتق، لِاسْتِحَالَة إِعْلَام من قَدْ عَلَمُ، وَلَو أخبرهُ لعتق لصِحَّة إِخْبَار الْمخبر بِمَا كَانَ قد أخبر بِهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، عَنْ يُونُس، قَالَ: جَاءَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إِلَى بَاب عُمَر بْن الخَطَّاب فَسَمعهُ وَهُوَ يتَمَثَّل فِي بَيته:
وَكَيف مُقَامِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ... قضى وطراً مِنْهَا جَمِيلُ بْن مَعْمَرِ