أروى اللَّه عَيمتَها، قَالَ القَاضِي: العَيْمة: شَهْوَة اللَّبن، يُقَالُ: عَمت إِلَى اللَّبن أعيم عيمة، وَمن دُعَاء الْعَرَب: مَا لَهُ عَامَ وغام وآم، فغام: قرم إِلَى اللَّبن وَلم يقدر عَلَيْهِ، وآم: مَاتَت امْرَأَته، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وأُبنا وَقد آمتْ نِسَاءٌ كثيرةٌ ... ونسْوَانُ سَعْدٍ لَيْسَ فيهنَّ أيِّمُ
معنى آمت نسَاء مَاتَ أَزوَاجهنَّ، وغام: عَطش فَلم يقدر عَلَى المَاء، فَلَمّا انْتهى إِلَى قَوْله:
ألستُمْ خَيْر من ركب المَطَايا ... وأندى العَالمين بُطُون رَاحِ
قَالَ عَبْد الْملك: من مَدْحنَا فليمدحْنا هَكَذَا. فَلَمّا خَتمهَا أمره بإعادتها، فَلَمّا أنْشد:
أتَصْحُو أم فؤادُك غَيْرُ صَاحِ
لَمْ يقل لَهُ مَا قَالَ فِي الْمرة الأولى، ولمّا خَتمهَا أَمر لَهُ بِمِائَة نَاقَة بأداتها ورعاتها، فَقَالَ جرير: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! اجْعَلْهَا من إبل كلب، وإبل كلب إبل كرام.
قَالَ القَاضِي: وَقد كتبنَا هَذَا الْخَبَر عَنْ أبي بَكْر بْن الأنبَاريّ فِي مجْلِس آخر: فَأتى بِهِ بِزِيَادَة فِي هَذِهِ القصيدة وَأنْشد فِيهِ كلمة جرير كلهَا وَفسّر غريبها، وَإِذا عثرنا عَلَيْهِ رسمناه فِيمَا نستقبله من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن زَيْدُ أَبُو عليّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بالحكيمي، قَالَ: سمعتُ أَحْمَد بْن يُوسُف الْكَاتِب يَقُولُ: حَدَّثَنِي ثُمَامَة بْن أَشْرَس، قَالَ: أول مَا أنكر يحيى بْن خَالِد من أمره، أنَّ مُحَمَّد بْن اللَّيْث أبي الرّبيع الْكَاتِب كتب إِلَى الرشيد رِسَالَة يَعِظُه فِيهَا وَيذكر فِيهَا يحيى بْن خَالِد وَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن يحيى بْن خَالِد لَا يُغني عَنْكَ من اللَّه شَيئًا، وَقد جعلته فِيما بَيْنك وَبَين اللَّه عَزَّ وَجل، فَكيف أَنْت إِذا وقفت بَيْنَ يَدَيْهِ فسألك عَمَّا عملت فِي عباده وبلاده، فَقلت: أَي رب! استكفيت يحيى بْن خَالِد أُمُور عِبَادك، أتراك تحتج بِحجَّة يرضاها؟ مَعَ كَلَام فِيهِ توبيخ وتقريع، فَلَمّا قَرَأَهَا الرشيد دَعَا يحيى بْن خَالِد وَقد تَقَدَّمَ إِلَى يحيى خبر هَذِهِ الرسَالَة، فَقَالَ لَهُ: أتعرف مُحَمَّدًا بْن اللَّيْث؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فأيُّ الرِّجَال هُوَ؟ قَالَ: مُتّهم على الْإِسْلَام. فَأمر الرشيد بِمُحَمد بْن اللَّيْث فَوضع فِي المطبق فَأَقَامَ دهرًا، فَلَمّا تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فَأمر بِإِخْرَاجِهِ فأحضر، فَقَالَ لَهُ بَعْدَ مُخَاطبَة طَوِيلَة: يَا مُحَمَّد! أتحبني، قَالَ: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: أوتقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وضعت فِي رِجلي الأكْبَالَ وحلت بيني وَبَين الْعِيَال بِلَا ذَنْب وَلَا حَدَثٍ أحدثتُ سوى قَول حَاسِد يكيدُ الْإِسْلَام وَأَهله، وَيُحب الْإِلْحَاد وَأَهله، فَكيف أُحِبَّكَ؟ قَالَ: صدقت، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ، ثُمّ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد بْن اللَّيْث أتحبني، قَالَ لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِن قَدْ ذهب بَعْض مَا كَانَ فِي قلبِي، فَأمر أَن يدْفع إِلَيْهِ من