دَرَاهِم وَأعَاد الْخياطَة كَمَا كَانَتْ، وقُدِّر أنَّ الرَّجُل وافى وطالب الشَّاهِد بوديعته فَأعْطَاهُ الْكيس بختمه، فَلَمّا حصل فِي منزله فضَّ خَتْمه فصادف فِي الْكيس دَرَاهِم فَرجع إِلَى الشَّاهِد، وَقَالَ لَهُ: عافاك اللَّه، اردُدْ عليّ مَالِي فَانِي استودعتُك دَنَانِير وَالَّذِي وجدت دَرَاهِم مَكَانهَا، فَأنْكر ذَلِكَ واستعدى عَلَيْهِ القَاضِي الْمُقدم ذكره، فَأمر بإحضار الشَّاهِد مَعَ خَصمه، فَلَمّا حضرا سَأَلَ الْحَاكِم: مُذْ كم أودعتُه هَذَا الْكيس؟ قَالَ: مذ خمس عشرَة سنة، فَأقبل عَلَى الشَّاهِد، فَقَالَ: مَا تَقول؟ قَالَ: صدق هُوَ عِنْدِي مُنْذُ خمس عشرَة سنة، فَأخذ القَاضِي الدَّرَاهِم وَقَرَأَ شكلها فَإِذا هِيَ دَرَاهِم مِنْهَا مَا قَدْ ضُرب مُنْذُ سَنتين وَثَلَاثَة وَنَحْو ذَلِكَ فَأمره أَن يدْفع الدَّنَانِير إِلَيْهِ فدفعَها إِلَيْهِ أَوْ مَكَانهَا وأسْقَطَه، فَقَالَ لَهُ: يَا خائن ونادى مناديه: أَلا إِن فلَان بْن فلَان القَاضِي قَدْ أسقط فلَان بْن فلَان الشَّاهِد، فاعلموا ذَلِكَ وَلَا يغتَرِرْ بِهِ أحد بَعْدَ الْيَوْم، فَبَاعَ الشَّاهِد أملاكه بواسط، وَخرج مِنْهَا هَارِبا فَلا يَعْلَمُ عَنْهُ خبر، وَلَا أحسَّ مِنْهُ أثر.
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن قَال حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: قَالَ الرشيد لأبي يُوسُف القَاضِي: بَلغنِي أنَّكَ تَقول إِن هَؤُلاءِ الَّذِين يشْهدُونَ عنْدك وَتقبل أَقْوَالهم متصنعة، فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ وَكَيف ذَلِكَ؟ قَالَ: لأنَّ من صَحَّ سَتْرُه وخلصت أَمَانَته لَمْ يعرفنا وَلم نَعْرَفْه، وَمن ظهر أمره وانكشف سِتْرُه لَمْ يأتنا وَلم نقبله، وبَقِيتْ هَذِهِ الطَّبَقَة وهم هَؤُلاءِ الْمُتَصَنِّعة الَّذِينَ أظهرُوا السّتْر وأبطنوا غَيره، فَتَبَسَّمَ الرشيد وَقَالَ: صدقت.
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عليّ أَبُو مُحَمَّد الخطبي، قَالَ: لمّا وُلّي إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد بْن أبي حنيفَة الْقَضَاء، قَالَ: يجب أَن يكون بَيْنَ أَيْدِينَا قَوْم نَتَمَنْدَلُ بهم ويتمنْدَلُون هُمْ بالعامة، وَلَا يجب أَن يَكُونُوا من أكَابِر النّاس وَمن أعاليهم، وَلَا سوقتهم وسِفْلتهم، فَاخْتَارَ متوسطي التُّجَّار فجعلهم شُهُودًا.
قَالَ القَاضِي: قَول ابْن حَمَّاد من سوقتهم وسفلتهم، يدلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يظنّ أنَّ السوقة أَهْلَ الْأَسْوَاق، وَلم يَعْلَمُ أنَّ السوقة هُم الَّذِينَ يسوقهم الْمُلُوك بسياستهم وَأَن النّاس مُلُوك وسوقة أَي رعية، كَمَا قَالَ زُهَيْر:
يَا حَار لَا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بداهيةٍ ... لَمْ يَلْقها سُوقَةٌ قبلي وَلَا مَلِكُ
وَقَالَت حُرقة بِنْت النُّعْمَان بْن الْمُنْذر:
فَبينا نسوسُ النّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذَا نَحْنُ فيهم سوُقةٌ نتنصف