الصمت فِي مَوَاطِن الصمت الرَّاحَة والسلامة، والتنزه عَمَّا عاقبته الْمَكْرُوه والندامة، وَقد ذُكر فِي فضل النُّطْق ومدح الصمت نثرًا ونظمًا مَا يطول إِتْيَانه وَيكثر تعداده، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الْإِتْيَان بِهِ، وَجُمْلَة القَوْل أنَّ لكلِّ وَاحِد من الْأَمريْنِ موضعا هُوَ فِيهِ أولى من صَاحبه، وَقد يعتدلان فِي بَعْض الْأَحْوَال ويتقاربان، وَإِن كَانَا فِي بعضهما يتفاوتان ويتفاضلان. وَقد حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الدقيقي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عُمَر السّبيعي، قَالَ: سَمِعت بِشْر بْن الْحَارِث يَقُول: الصَّبْر هُوَ الصمت، والصمت هُوَ الصَّبْر، وَلَا يكون الْمُتَكَلّم أورع من الصَّامِت إِلَّا رَجُل عالمٌ يتَكَلَّم فِي مَوْضِعه ويسكت فِي مَوْضِعه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا العكلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عوَانَة بْن الحكم، وشرقي بْن قطامي وَأبي مخنف قَالُوا: لمّا انْصَرف خَالِد بْن الْوَلِيد من الْيَمَامَة، وَضرب عسكره عَلَى الجَرْعة الَّتِي بَيْنَ الْحيرَة وَالنّهر وتحصَّن مِنْهُ أَهْلُ الْحيرَة فِي الْقصر الْأَبْيَض وَقصر ابْن بُقَيلة وَجعلُوا يرمونه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى نَفِدَت، ثُمَّ رَمَوْهُ بالخزف من آنيتهم، فَقَالَ لَهُ ضرار بْن الأزْور: مَا لَهُمْ مكيدةٌ أعظمَ ممّا ترى، فَبعث إِلَيْهم: ابْعَثُوا إليَّ رَجُلا من عُقلائكم أسائله ويُخبرني عَنْكُم، فبعثوا لَهُ عَبْد الْمَسِيح بْن عَمْرو بْن قيس بْن حَيَّان بْن بُقيلة الغساني، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن خمسين وثلثمائة سنة، فَأقبل يمشي إِلَى خَالِد فَلَمّا رَآهُ قَالَ: مَا لَهُمْ أخزاهم اللَّه بعثوا إليَّ رَجُلا لَا يفقه، فَلَمّا دنا قَالَ: أنعم صباحًا أَيهَا الْملك، فَقَالَ خَالِد: قَدْ أكرمنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْر هَذِهِ التَّحِيَّة، بِالسَّلَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ خَالِد: من أَيْنَ أقْصَى أثرك؟ قَالَ: من ظهر أَبِي. قَالَ: من أَيْنَ خرجت؟ قَالَ: من بطن أُمِّي. قَالَ: عَلَى مَا أَنْت: قَالَ: عَلَى الأَرْض. قَالَ: فيمَ أَنْت وَيحك؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي. قَالَ: أتعقل؟ قَالَ: نعم وأقيد، قَالَ: ابْن كم أَنْت: قَالَ: ابْن رَجُل وَاحِد. قَالَ خَالِد: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ، أسائلهُ عَنْ شَيْءٍ وينحو فِي غَيره، قَالَ: مَا أَجَبْتُك إِلَّا عَمَّا سَأَلت عَنْهُ فاسأل عَمَّا بدا لَك، قَالَ: كم أَتَى عَلَيْك؟ قَالَ: خَمْسُونَ وثلثمائة سنة، قَالَ: أَخْبرنِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: عربٌ استنبطنا ونبطٌ استعربنا، قَالَ: فحربٌ أَنْتُم أم سِلْم؟ قَالَ: بل سِلْم. قَالَ: فَمَا بَال هَذِهِ الْحُصُون؟ قَالَ: بنيناها لنحبس السَّفِيه حَتَّى ينهاه الْحَلِيم، قَالَ: وَمَعَهُ سمٌّ سَاعَة يقلِّبه فِي يَده، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَ: هَذَا السم، قَالَ: وَمَا تصنعٌ بِهِ؟ قَالَ: أتيتُك فَإِن رَأَيْت عنْدك مَا يسرني وَأهل بلدي حمدت اللَّه تَعَالَى، وَإِن كَانَت الْأُخْرَى لَمْ أكن أول من سَاق إِلَيْهِم ضيمًا وبَلاءً فآكلُه وأستريح، وَإِنَّمَا بَقِيَ من عُمريَ الْيَسِير، فَقَالَ: هاته فَوَضعه فِي يَد خَالِد، فَقَالَ: بِسم اللَّه وَبِاللَّهِ ربِّ الأَرْض وَرب السَّمَاء، الَّذِي لَا يضر مَعَ اسْمه دَاء، ثُمَّ أكله فتجلته غَشْية فضربَ بذقنه عَلَى صَدره ثُمَّ عرق وأفاق، فَرجع ابْن بقيلة إِلَى قومه، فَقَالَ: جئتُ من عِنْدَ شَيْطَان أكل سمَ سَاعَة