على مِثْل ليلى يقتلُ المرء نفسَه

وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزّي رحمه الله، وكشفتُ عن وجْه الشَّيخِ ونظرتُ إِليه وقبّلتُه، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه. وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرَّحمن أَنَّه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمةً وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا فيها إِلى آخر اقتربت الساعة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر/ 54 - 55]. فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيّران عبد الله بن المحب، وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشَّيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرَّحمن حتَّى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.

ثمَّ شرعوا في غسل الشَّيخ، وخرجتُ إِلى مسجدٍ هُناك، ولم يمكث عنده إلاّ مَنْ ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزّي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فُرغ منه حتَّى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحّم، ثمَّ ساروا به إِلى الجامع، فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثمَّ عطفوا إلى باب الناطفانيين وذلك أَنَّ سويقة باب البريد كانت قد هُدمت لتُصلح، ودخلوا بالجنازة إِلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدّتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السُنّة! فتباكى الناسُ وضَجّوا عند سماع هذا الصارخ. ووُضع الشيخُ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصًّا لا يتمكّنُ أحدٌ من الجسود إِلاَّ بكُلفة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015