بالعلوم، وحَفِظ القُرْآن، وأقبل على الفِقْه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي (?) ثمَّ فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتَّى فهِمَه، وبرع في النَّحْو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليًا حتَّى حاز فيه قصب السَّبْق، وأحكم أُصول الفقه، وغير ذلك، هذا كلُّه وهو بَعْدُ ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفُضَلاء من فَرْط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.

نشأ في تصوُّنٍ تام، وعفاف تألُّهٍ، واقتصاد في المَلْبَس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفَا صالحًا سلفيًا، بَرًّا بوالديه، تقيًا، ورعًا، عابدًا ناسكًا، صَوَّامًا قَوَّمًا، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تكاد نَفْسُه تشبع من العِلْم، ولا تَرْوى من المطالعة، ولا تَمَلُّ من الاشتغال، ولا تَكِلُّ من البحث، وقلَّ أن يَدْخُلْ في علم من العلوم، في باب من أبوابه إِلاَّ ويُفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله.

وكان يحضر المدارس والمحافل في صِغَرِه، فيتكلَّم ويناظر، ويُفْحِمُ الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيانُ البلد في العِلْم، وأفتى له نحو سبع عشرة سنة، وشَرَع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت.

ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرَّس بعده بوظائفه؛ وله إِحدى وعشرون سنة، واشْتَهر أمره، وبَعُدَ صيته في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015