وهذا الانصراف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل في معنى التخطي؛ لأن على الناس كلهم الانصراف بعد الصلاة، فمن بقي في موضعه فهو مختار لذلك، وإنما التخطي في الدخول في المسجد لا في الخروج منه.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذكر كذا، اذكر كذا" فإن أبا حنيفة أتاه رجل قد دفع مالًا ثم غاب عن مكانه سنين، فلما. انصرف نسي الموضع الذي جعله، فذكر ذلك لأبي حنيفة؛ تبركًا برأيه، ورغبة في فضل دعائه، فقال له أبو حنيفة: توضأ هذِه الليلة وصل، وأخلص النية في صلاتك لله، وفرغ قلبك من خواطر الدنيا، ومن كل عارض فيها.
فلما جاء الليل فعل الرجل ما أمره به واجتهد أن لا يجري على باله شيئًا من أمور الدنيا، فجاءه الشيطان، فذكَّره بموضع المال فقصده من وقته، فوجده، فلما أصبح غدا إلى أبي حنيفة فأخبره بوجوده للمال، فقال أبو حنيفة: قدرت أن الشيطان سيرضى أن يشغله عن إخلاص فعله في صلاته لله تعالى ويصالحه على ذلك بتذكيره بما يقدمه من ماله ليلهيه عن صلاته استدلالًا بهذا الحديث. فعجب جلساؤه من جودة انتزاعه لهذا المعنى الغامض من هذا الحديث، وذكره ابن الجوزي في "الأذكياء" (?).