زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ صَرَفُوا بَعْضَ النُّصُوْصِ عَنْ ظَاهِرِهَا؛ وَذَلِكَ مُلْزِمٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ بِالمُوَافَقَةِ عَلَى التَّأْوِيْلِ أَوِ المُدَاهَنَةِ فِيْهِ، وَقَالُوا: كَيْفَ تُنْكِرُوْنَ عَلَيْنَا تَأْوِيْلَ مَا أَوَّلْنَاهُ مَعَ ارْتِكَابِكُم لِمِثْلِهِ فِيْمَا أَوْلَّتُمُوْهُ؟
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَوَّلُ) جَوَابٌ مُجْمَلٌ:
أ) لَا نُسلِّمُ أَنَّ تَفْسِيْرَ السَّلَفِ لَهَا هُوَ صَرْفٌ لَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ الكَلَامِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنَ المَعْنَى، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ السِّيَاقِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الكَلَامُ، فَإِنَّ الأَلْفَاظَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا بِحَسْبِ تَرْكِيْبِ الكَلَامِ، وَالكَلَامُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْفَاظٍ وَجُمَلٍ يَظْهَرُ مَعْنَاهَا وَيَتَعَيَّنُ بِضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ.
ب) أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ تَفْسِيْرَهُم صَرْفٌ لَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، فَإِنَّ لَهُم فِي ذَلِكَ دَلِيْلًا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إِمَّا مُتَّصِلًا وَإِمَّا مُنْفَصِلًا، وَلَيْسَ لِمُجَرَّدِ شُبُهَاتٍ يَزْعُمُهَا الصَّارِفُ بَرَاهِيْنَ وَقَطْعِيَّاتٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي) جَوَابٌ مُفَصَّلٌ، وَلنُمَثِّلْ بِالأَمْثِلَةِ التَّالِيَةِ:
1) فَنَبْدَأُ بِمَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ (?) عَنْ بَعْضِ الحَنَابِلَةِ؛ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَتَأَوَّلْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: (الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِيْنُ اللهِ فِي الأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ)، وَ (إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)، وَ (إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ).
وَالجَوَابُ:
أ) أَنَّ هَذِهِ الحِكَايَةَ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ، نَقَلَهَا عَنِ الغَزَالِيِّ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى، وَقَالَ: (هَذِهِ الحِكَايَةُ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَدَ). (?)
ب) حَدِيْثُ (الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِيْنُ اللهِ فِي الأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ). الحَدِيْثُ مُنْكَرٌ. (?)
جـ) حَدِيْثُ (إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنِ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (?)
وَالجَوَابُ عَنْهُ: قَدْ أَخَذَ السَّلَفُ أَهْلُ السُّنَّةِ بِظَاهِرِ الحَدِيْثِ وَقَالُوا: إِنَّ للهِ تَعَالَى أَصَابِعَ حَقِيْقَةً نُثْبِتُهَا لَهُ كَمَا أَثْبتَها لَهُ رَسُوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ قُلُوْبِ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعِيْنِ مِنْهَا أَنْ تَكُوْنَ مُمَاسَةً لَهَا حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الحَدِيْثَ مُوْهِمٌ لِلحُلُوْلِ؛ فَيَجِبُ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ! فَهَذَا السَّحَابُ مُسَخَّرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ لَا يَمَسُّ السَّمَاءَ وَلَا الأَرْضَ.
وَيُقَالُ: بَدْرٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةَ رُغْمَ تَبَاعُدِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا، فَقُلُوْبُ بَنِي آدَمَ كُلُّهَا بَيْنَ إِصْبَعِيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ حَقِيْقَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُمَاسَةٌ وَلَا حُلُوْلٌ.
د) (إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ). (?)
وَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالنَّفَسُ هُنَا هُوَ مِنَ التَّنْفِيْسِ وَهُوَ التَّفْرِيْجُ، وَلَيْسَتْ النَّفْسُ بِمَعْنَى الذَّاتِ.
قَالَ الأَزْهَرِيُّ فِي (تَهْذِيْبِ اللُّغَةِ) (?): (النَّفَسُ فِي هَذيْنِ الحَدِيْثَيْنِ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ الحَقِيْقِيِّ مِنْ (نَفَّسَ يُنَفِّسُ تَنْفِيْسًا وَنَفَسًا) كَمَا يُقَالُ: فَرَّجَ يُفَرِّجُ تَفْرِيْجًا وَفَرَجًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ تَنْفِيْسَ ربِّكُم مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ، لِأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ نَصَرَهُم بِهِم وَأَيَّدَهُم بِرِجَالِهِم).