هـ) أَنْ يُقالَ لِلمُعَطِّلِ: هَلْ أَنْتَ أَعْلَمُ بِاللهِ مِنْ نَفْسِهِ؟ فَسَيَقُوْلُ: لَا.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ صِدْقٌ وَحَقٌّ؟ فَسَيَقُوْلُ: نَعَم.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ كَلَامًا أَفْصَحَ وَأَبْيَنَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى؟ فَسَيَقُوْلُ: لَا.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ تَظُنُّ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ الحَقَّ عَلَى الخَلْقِ فِي هَذِهِ النُّصُوْصِ لِيَسْتَخْرِجُوْهُ بِعُقُوْلِهِم؟ فَسَيَقُوْلُ: لَا.
فَيُقَالُ لَهُ: يَلْزَمُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ جَوَابِكَ أَنْ تُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ دُوْنَ تَعْطِيْلٍ مِنْكَ، فَهَذَا أَقْوَمُ لَكَ فِي دِيْنِكَ، وَأَسْلَمُ لَكَ {يَوْمَ يُنَادِيْهِمْ فَيَقُوْلُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِيْنَ} (القَصَص:65).
و) أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّعْطِيْلِ - المُسَمَّى عِنْدَهُم تَأْوِيْلًا - لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ؛ أَهَمُّهَا: أَنَّ ظَاهِرَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَشْبِيْهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوْقِ وَأَنَّ ظَاهِرَهُمَا كُفْرٌ لَا يَجُوْزُ القَوْلُ بِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَعَانِيْهَا بَلْ أَوْكَلَهَا إِلَى عُقُوْلِنَا المُتَضَارِبَةِ وَإلى فَهْمِ كُلِّ شَخْصٍ، وَفِيْهِ مِنْ سُوْءِ الظَّنِّ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَعْنَاهَا، وَفِيْهِ سُوْءُ الظَّنِّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُم إِمَّا سَكَتُوا عَنِ القَوْلِ فِيْهَا لِجَهْلِهِم بِمَعْنَاهَا؛ أَوْ عَلِمُوْهَا وَكَتَمُوا بَيَانَهَا. (?)
ثُمَّ إِنَّ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيْلِ مَنْ طَرَدَ قَاعِدَتَهُ فِي جَمِيْعِ الصِّفَاتِ، أَوْ تَعَدَّى إِلَى الأَسْمَاءِ - أَيْضًا - وَمِنْهُم مَنْ تَنَاقَضَ فَأَثْبَتَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُوْنَ بَعْض - كَالأَشْعَرِيَّةِ وَالمَاتُرِيْدِيَّةِ - أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتُوْهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنَفَوا مَا نَفَوْهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ يَنْفِيْهِ أَوْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
فَنَقُوْلُ لَهُم: نَفْيُكُم لِمَا نَفَيْتُمُوْهُ بِحُجَّةِ أَنَّ العَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالطَّرِيْقِ العَقْلِيِّ الَّذِيْ أَثْبَتُّمْ بِهِ مَا أَثْبَتُّمُوْهُ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالدَّلِيْلِ السَّمْعِيِّ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُم أَثْبَتُوا صِفَةَ الإِرَادَةِ، وَنَفَوا صِفَةَ الرَّحْمَةِ، فَأَثْبَتُوا صِفَةَ الإِرَادَةِ لِدِلَالَةِ السَّمْعِ وَالعَقْلِ عَلَيْهَا.
أَمَّا السَّمْعُ: فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ} (البَقَرَة:235)، وَأَمَّا العَقْلُ: فَإِنَّ اخْتِلَافَ المَخْلُوْقَاتِ وَتَخْصِيْصَ بَعْضِهَا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ ذَاتٍ أَوْ وَصْفٍ دَلِيْلٌ عَلَى الإِرَادَةِ.
وَنَفَوا الرَّحْمَةَ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ لِيْنَ الرَّاحِمِ وَرقَّتَهُ لِلمَرْحُوْمِ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى!! (?)، وَأَوَّلُوا الأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ المُثْبِتَةَ لِلرَّحْمَةِ إِلَى الفِعْلِ أَوْ إِرَادَةِ الفِعْلِ، فَفَسَّرُوا الرَّحِيْمَ بِالمُنْعِمِ أَوْ مُرِيْدِ الإِنْعَامِ!
فَنَقُوْلُ لَهُم: الرَّحْمَةُ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى بِالأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَأَدِلَّةُ ثُبُوْتِهَا أَكْثَرُ عَدَدًا وَتَنَوُّعًا مِنْ أَدِلَّةِ الإِرَادَةِ، فَقَدْ وَرَدَتْ بِالاسْمِ مِثْلِ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) (الفَاتِحَة:4)، وَالصِّفَةِ مِثْلِ: (وَرَبُّكَ الغَفُوْرُ ذُو الرَّحْمَةِ) (الكَهْف:58)، وَالفِعْلِ مِثْلِ: (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ) (العَنْكَبُوْت:21)، وَيُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالعَقْلِ أَيْضًا، فَإِنَّ النِّعَمَ الكَثِيْرَةَ عَلَى العبَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالنِّقَمَ الَّتِيْ تُدْفَعُ عَنْهُم فِي كُلِّ حِيْنٍ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوْتِ الرَّحْمَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدِلَالَتُهَا عَلَى ذَلِكَ أَبْيَنُ وَأَجْلَى مِنْ دِلَالَةِ الإِرَادَةِ - لِظُهُوْرِ ذَلِكَ لِلخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ - بِخِلَافِ دِلَالَةِ التَّخْصِيْصِ عَلَى الإِرَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِأَفْرَادٍ مِنَ النَّاسِ.
وَأَمَّا نَفْيُهَا بِحُجَّةِ أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ اللِّيْنَ وَالرِّقَةَ؛ فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ لَوْ كَانَتْ مُسْتَقِيْمَةً لَأَمْكَنَ نَفْيُ الإِرَادَةِ بِمِثْلِهَا فَيُقَالُ: الإِرَادَةُ: مَيْلُ المُرِيْدِ إِلَى مَا يَرْجُو بِهِ حُصُوْلَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الحَاجَةَ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ! فَإِنْ أُجِيْبَ: بِأَنَّ هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوْقِ؛ أَمْكَنَ الجَوَابُ بِمِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ المُسْتَلْزِمَةَ لِلنَّقْصِ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوْقِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيْلِ سَوَاءً كَانَ تَعْطِيْلًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا.