3) تَأْوِيْلُ الرَّحْمَةِ بِإِرَادَةِ الرِّضَى أَوِ الثَّوَابِ بِحُجَّةِ أَنَّ هَذَا تَنْزِيْهٌ للهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ المَخْلُوْقِ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمُوْرٌ:
أ) أَنَّ الإِرَادَةَ أَيْضًا يَرِدُ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا ذَكَرُوا فِي الرَّحْمَةِ، فَيُقَالُ لَهُم أَنَّ الإِرَادَةَ - وَهِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ - إِنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَلِيْقُ بِهِ ذَلِكَ - مُجَارَاةً لَهُم عَلَى قَاعِدَتِهِم -، فَإِذَا قَالُوا: هَذِهِ إِرَادَةُ المَخْلُوْقِ الضَّعِيْفِ المُحْتَاجِ! أَمْكَنَ الجَوَابُ بِمِثْلِهِ فِي الرَّحْمَةِ؛ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ المُسْتَلْزِمَةَ لِلنَّقْصِ هِيَ رَحْمَةُ المَخْلُوْقِ الضَّعِيْفِ.
ب) تَأْوِيْلُ الرَّحْمَةِ بِمَا سَبَقَ مِنْ إِرَادَةِ الثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى مُخَالِفٌ لَمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ، فَلَو كَانَ حَقًّا لَذَكَرُوْهُ وَمَا غَفِلُوا عَنْهُ كَمَا يَدَّعِي المُؤَوِّلُوْنَ، حَيْثُ يَقُوْلُوْنَ بِأَنَّ عَامَّةَ المُسْلِمِيْنَ - وَفِيْهِمُ السَّلَفُ - غَافِلُوْنَ عَنْ هَذَا المَعْنَى الَّذِيْ يُعَدُّ عِنْدَهُم مُنْكَرًا.
وَالصَّوَابُ - الَّذِيْ لَا رَيْبَ فِيْهِ -: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَلَى الهَدِيِّ المُسْتَقِيْمِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ} (البَقَرَة:137). (?)
جـ) دَعْوَى أَنَّ العَقْلَ دَلَّ عَلَى صِفَةِ الإِرَادَةِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ فِيْهِ مُجَازَفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَنَوُّعُ المَخْلُوْقَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا مُرِيْدٌ لِهَذَا التَّنَوُّعِ، فَأَوْضَحُ مِنْهُ مَا قَامَ فِي الفِطَرِ وَنُفُوْسِ النَّاسِ مِنْ حُصُوْلِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ وَانْتِشَارِ الخَيْرِ وَتَفْرِيْجِ الغَمِّ وَنُزُوْلِ الغَيْثِ وَ ... مِمَّا فِيْهِ بَيَانُ رَحْمَةِ مَنْ أَجْرَى تِلْكَ الأُمُوْرَ، وَهُوَ الَّذِيْ تَرَاهُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ العَامَّةِ مِنْهُم فَضْلًا عَنِ الخَاصَّةِ.
وَكَمَا سَبَقَ فِي شِعْرِ امْرِئِ القَيْسِ: (تِلْكَ السَّحَابُ إِذَا الرَّحْمَنُ أَنْشَأَهَا ... رَوَّى بِهَا مِنْ مَحُوْلِ الأَرْضِ أَنْفَاسًا).
وَ (المَحْلُ): الجُوْعُ الشَّدِيْدُ. (?)
د) أَنَّ الرَّحْمَةَ مُغَايِرَةٌ لِلثَّوَابِ أَوِ الرِّضَى أَوِ الفَضْلِ، فَاللهُ تَعَالَى وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَبِهَا يَرْحَمُ الكَافِرَ في الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ لَا يُثِيْبُهُ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ - كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ قَطْعًا -.
وَفِي الحَدِيْثِ (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مَائَةَ جُزْءٍ، فَأمسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِن ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلَائِقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيْبَهُ). (?)
وَكَقَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُوْنَ} (يُوْنُس:58)، فَفَرَّقَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالفَضْلِ أَيْضًا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى المُغَايَرَةِ.
وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْوِيْهِ إِلَى أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوْقَةٍ؛ وَأَنَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الخَيْرِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ وَحُصُوْلِ النِّعَمِ هِيَ آثَارُ رَحْمَةِ اللهِ، فَنُزُوْلُ المَطَرِ وَنَبَاتُ الأَرْضِ وَ ... هِيَ أَشْيَاءُ مَخْلُوْقَةٌ، فَالعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الشَيْء عَلَى الشَيْءِ؛ وَأَيْضًا تُطْلِقُ الصِّفَةَ عَلَى المَفْعُوْلِ، كَقَوْلِكَ عَنِ المَقْدُوْرِ هَذِهِ قُدْرَةُ اللهِ (?)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُوْنَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِيْنَ، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ} (الرُّوْم:50).