- قَوْلُهُ (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم): هَذَا فِيْهِ نَفيٌ لِكَمَالِ الإِيْمَانِ الوَاجِبِ.
وَمَعْنَى الحَدِيْثِ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَكُوْنُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الإِيْمَانِ الوَاجِبِ حَتَّى تَكُوْنَ مَحبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا، فَيُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُوْنَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأَحْزَاب:36).
وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ)، فَلَا يَكُوْنُ المُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يُقَدِّمَ مَحَبَّةَ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيْعِ الخَلْقِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُوْلِ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ. (?) (?)
- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (?): (فَجَمِيْعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ هَوَى النُّفُوْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِيْنَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} (القَصَص:64). وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيْمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ).
قُلْتُ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدَىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ} (القَصَص:50) بَيَانُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمِ الشَّرِيْعَةَ فَهُوَ صَاحِبُ هَوَىً.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى الاتِّبَاعَ قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُوْلُ، وَإِمَّا الهَوَى). (?)
- قَوْلُهُ (هَوَاهُ): الهَوَى لَهُ مَعْنَيَانِ:
1) المَيْلُ إِلَى خِلَافِ الحَقِّ - وَهُوَ المَعْنَى إِذَا أُطْلِقَ اللَّفْظُ -، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ} (ص:26).
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} (النَّازِعَات:41).
2) المَحَبَّةُ وَالمَيْلُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيْهِ المَيْلُ إِلَى الحَقِّ وَغَيْرِهِ، فيُذَمُّ وَيُمْدَحُ بِحَسْبِ المَحْبُوبِ.
وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: (أَمَا تَسْتَحِي المَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} (الأَحْزَاب:51) (?)، قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ). (?)
وَعَلَى هَذَا النَّوعِ يُحْمَلُ حَدِيْثُ البَابِ، أَيْ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم الإِيْمَانَ الوَاجِبَ حَتَّى تَكُوْنَ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (?)
- قَوْلُهُ (وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُوْدِ): اليَهُوْدُ هُمُ المُنْتَسِبُوْنَ إِلَى دِيْنِ مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ إِمَّا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُم {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأَعْرَاف:156) أَيْ: رَجَعنَا، أَوْ نِسْبَةً إِلَى أَبِيْهِم يَهُوذَا، وَلَكِنْ بَعْدَ التَّعْرِيْبِ صَارَ بِالدَّالِ.
- فِي القِصَّةِ أَنَّ المُنَافِقَ أَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى اليَهُوْدِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُم يَأْخُذُوْنَ الرِّشْوَةَ، وَهِيَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيْهِم {سَمَّاعُوْنَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُوْنَ لِلسُّحْتِ} (المَائِدَة:42)، أَيْ: سَمَّاعُوْنَ لِلبَاطِلِ، {أَكَّالُوْنَ لِلسُّحْتِ} أَي الحَرَامِ، وَهُوَ الرِّشْوَةُ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ -. (?) (?)
- فَائِدَةٌ) لَيْسَ المَقْصُوْدُ مِنَ التَّحَاكُمِ إِلَى الشَّرِيْعَةِ هُوَ مُجَرَّدُ تَحْقِيْقِ الأَمْنِ وَالعَدَالَةِ بَيْنَ النَّاسِ! فَهَذَا لَا يَكْفِي، بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَكُوْنَ تَحْكِيْمُ الشَّرِيْعَةِ تَعَبُّدًا وَطَاعَةً للهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَاكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ كَثِيْرًا مِنَ الأَحْكَامِ هِيَ تَعَبُّدِيَّةٌ مَحْضَةٌ - لَا تُعْقَلُ لَدِيْنَا - فَلَا يَجُوْزُ تَعْطِيْلُهَا بِحُجَّةِ أنَّنَا لَا نَعْلَمُ وَجْهَ إِفَادَتِهَا اجْتِمَاعِيًّا أَوِ اقْتِصَادِيًّا أَوْ .....