3) أَنَّ مَا جَرَى لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ - لَيْسَ فِيْهِ عِلْمٌ بِالغَيْبِ مُطْلَقًا، وَلَكنَّهُ مِنْ بَابَ الكَرَامَاتِ الَّتِيْ أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - لَهُ وَلِغَيْرِهِ - وَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ عَنْهُ، بَلْ ولَا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الغَيْبِ أَصْلًا!
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِيْ صَحَّتْ فِي ذَلِكَ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: (وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشًا، وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ، الجَبَلَ! - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ قَدِمَ رَسُوْلُ الجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ هُزِمْنَا، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الجَبَلِ! - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، فَأَسْنَدْنَا ظُهُوْرَنَا إِلَى الجَبَلِ؛ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى - وَكَانَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ المَدِيْنَةِ حَيْثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَكَانِ الجَيْشِ مَسِيْرَةَ شَهْرٍ - فَقيْلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيْحُ بِذَلِكَ). (?) فَلَيْسَ فِيْهَا عِلْمُهُ بِمَا وَقَعَ لَهُم؛ وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ أَثْنَاءَ خُطْبَتِهِ دُوْنَ قَصْدٍ مِنْهُ أَصْلًا وَلَا عِلْمٍ، وَدَلِيْلُ ذَلِكَ سُؤَالُهُ رَسُوْلَ الجَيْشِ مَا جَرَى مَعَهُ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّاسِ لَهُ (إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيْحُ بِذَلِكَ!). (?)
عَلَى أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ عُمَرُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ فَيَبْقَى مِنْ بَابِ الكَرَامَاتِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الغَيْبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الإِطِّلَاعَ عَلَى الغَيْبِ لَا يَكُوْنُ إِلَّا لِلرُّسُلِ، وَإلَّا فَهَّلا اطَّلَعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ سَارِيَةَ - وَأَشَدُّ خَطَرًا مِنْهُ عَلَيْهِ - ألَا وَهُوَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ المَجُوْسِيُّ الَّذِيْ طَعَنَهُ فِي الصَّلَاةِ - وَهُوَ خَلْفهُ فِي الصُّفُوفِ - وَلَا يَحْتَاجُ لِكَثِيْرِ عَنَاءٍ لِرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ سِكِّيْنِهِ؟! (?)
وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ القِصَّةِ عَلَى حُصُوْلِ المُكَاشَفَاتِ مِنَ المَشَايْخِ وَالأَوْلِيَاءِ لِمَا يَحْصُلُ حَوْلَنَا؛ أَوْ لِمَا فِي الصُّدُوْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُوْرِ هُوَ مِمَّا اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ - كَمَا سَبَقَ -، وَأَمَّا المُكَاشَفَاتُ لِمَا يَحْصُلُ حَوْلَهُم فَقَد يَكُوْنُ تَعَامُلًا مَعَ الجِنِّ، أَوْ اخْتِلَاقًا، أَوْ تَهْوِيْلًا لِلقَصَصَ، أَوْ فِرَاسَةً وَفِطْنَةً، وَعَلَى كُلِّ فَلَا تُقَاسُ عَلَى قِصَّةِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَهُ مَزِيَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فِيْهِ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الحَديْثِ (فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ عُمَرُ).