- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: وَلَيْسَ لِلقَاتِلِ تَوْبَةٌ - اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَعَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (قَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ)؛ وَعَنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَا يَدْعُوْنَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} (الفُرْقَان:70) (?) قَالَ: (كَانَتْ هَذِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ) البُخَارِيُّ؟ (?) (?)
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أ) أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الآيَتِيْنِ أَصْلًا، لِأَنَّ الأُوْلَى أَثْبَتَتْ لَهُ الجَزَاءَ، وَالثَّانِيَةَ أَثْبَتَتْ لَهُ قَبُوْلَ التَّوْبَةِ إِنْ تَابَ.
قَالَ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (?): (وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَمُوْتُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ القَاتِلَ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ - وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا -، وَأَنَّ لَهُ تَوْبَةً).
ب) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيْعُ اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَهُ؛ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَيَاةِ لِلمَيِّتِ؛ كَمَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَقُوقِ المَالِيَّةِ.
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيْثُ النَّسَائِيِّ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُوْلُ: (يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالقَاتِلِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فَيَقُوْلُ: أَيْ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيْمَ قَتَلَنِي؟). ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ؛ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللهُ ثُمَّ مَا نَسَخَهَا).
فَهُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ عَدَمَ القَبُوْلِ هُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ المَقْتُوْلِ الَّذِيْ لَا يُمْكِنُ إِرْجَاعُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟) (?)، وَلَيْسَ أَنَّهُ إِنْ تَابَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. (?)
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ - عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مُطْلَقًا -. (?)
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (هَذَا هُوَ المَشْهُوْرُ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً؛ وَجَوَازُ المَغْفِرَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوْءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوْرًا رَحِيْمًا} وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْهَبُ جَمِيْعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا - مَحْمُوْلٌ عَلَى التَّغْلِيْظِ وَالتَّحْذِيْرِ مِنَ القَتْل؛ وَالتَّوْرِيَةِ فِي المَنْعِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّتِيْ اِحْتَجَّ بِهَا اِبْنُ عَبَّاسٍ تَصْرِيْحٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ، وَإِنَّمَا فِيْهَا أَنَّهُ جَزَاؤُهُ، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ يُجَازَى). (?)