فحدوث أثر لحظي لا يندرج تحت مسمى التربية، فالذي ينفق مرة أو مرتين نتيجة تأثره اللحظي بموقف تعرض له، أو سماعه لموعظة عن الإنفاق لا يمكن أن نصفه بأنه قد صار (منفقا) إلا إذا صار الإنفاق سمة من سماته.
والذي استطاع أن ينام عددًا قليلاً من الساعات في ليلة من الليالي، واستفاد بوقته في إنجاز العديد من الأعمال، فإنه لا يصبح بهذه الليلة قد اكتسب أو تربى على قلة النوم إلا إذا صار ذلك سمتا عامًا له.
فالتربية هي: إحداث أثر دائم في الشيء ... مع العلم بأن هذا الأثر قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا، كمن يتربى على الكذب فيصير كذَّابًا، أو من يتربى على الشُّح فيصير شحيحًا، أو من يتربى على الإنفاق فيكون كريمًا جوادًا.
وعملية التربية تحتاج إلى ممارسة دائمة ومتكررة حتى تظهر ثمارها .. قال صلى الله عليه وسلم «الخير عادة .. » (?).
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية، فهدف التعليم هو إيصال المعلومة إلى المتعلم واستيعابه وفهمه لها دون النظر إلى تطبيقه أو عدم تطبيقه لمقتضاها.
أما هدف التربية فهي إيصال المعلومة مع الممارسة المستمرة لمقتضاها وما تدل عليه في الواقع العملي حتى تنشئ في ذات المتلقي أثرًا دائمًا ينتج عنه تغيُّر في سلوكه.
فلا تكفي المعرفة النظرية بالقيم والأخلاق لكي تُصبح واقعًا ملموسًا في حياة الفرد، بل لابد من أن يتربى عليها، ويمارسها مرات ومرات.
من هنا ندرك أهمية التربية الصحيحة التي تهدف إلى تكوين الفرد المسلم الصالح المصلح؛ لذلك كان من أهم مهمات الرسل: التربية والتزكية "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" [الجمعة: 2].
* * *
خلق الله عز وجل الإنسان وجعل تكوينه يشمل أربعة مكونات رئيسية هي: العقل والقلب والنفس والجسد.
والإنسان يبدأ رحلته على الأرض -منذ خروجه من رحم أمه- بهذه المكونات الأربع وهي غير مكتملة النمو، بل جعلها الله سبحانه تبدأ صغيرة، محدودة الإمكانات، لتنمو بعد ذلك بما أودع فيها من خاصية النماء.
ونماء هذه المكونات يستلزم دوام إمدادها بالغذاء الذي يناسبها.
فالجسد يخلق صغيرًا ضعيفًا، ولكي ينمو لابد له من غذاء متنوع يلبي احتياجاته ويترك فيه أثره الدائم، وينتج عنه دومًا طاقة تدفع صاحبه للنشاط والحركة.
ومع ضرورة إمداد الجسد بالغذاء المناسب لابد كذلك من دوام توجيه نشاطه وحركته بالطريقة التي تساهم في نجاح المرء في أداء وظيفته على الأرض.
وما ينطبق على الجسد ينطبق على العقل والقلب والنفس، فلابد لهذه المكونات الثلاثة من تربية وإنماء حتى تكتمل وتصلح ويساهم كل منها بأثره في تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي يقوم بوظيفته الأساسية؛ ألا وهي معرفة ربه وعبادته وخشيته بالغيب، وإقامة دينه في نفسه، ثم في نفوس المسلمين، وأن يجتهد في تبليغه للبشر جميعًا.
وكما أنه من الضروري استمرار تعاهد البدن وإمداده بما يصلحه حتى يستمر في النمو والتمتع بالصحة والحيوية؛ كذلك لابد من تعاهد العقل والقلب، والنفس بالإمداد بما يصلحهم، ودفع ما يضرهم حتى يستمر نموهم المعنوي في الاتجاه الصحيح، وبخاصة أن كلاً منهم يبدأ الحياة كما يبدأ الجسد .. محدود الإمكانات والقدرات، و لديه قابلية للنماء، فالعقل يبدأ الحياة وهو فارغ من أي مخزون معرفي "وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا" [النحل: 78].