هناك حلقة مفقودة بين الأقوال والأفعال، والسبب الرئيس في ذلك هو ضعف الإيمان، فعندما يهيمن الإيمان الحي على القلب فإنه يولد في ذات صاحبه باستمرار طاقة عظيمة، وقوة روحية تدفعه للقيام بالأفعال التي تناسب المواقف المختلفة .. لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية الإيمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع .. فعلى سبيل المثال:
لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنامًا ينبغي أن تزال، وأننا مصابون بداء العجب واستعظام النفس، ولكننا لن نستطيع مقاومة هذا المرض، والوقوف له بالمرصاد، لضعف القوة الروحية اللازمة لذلك.
ونفس الأمر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل الجهد في سبيل الله، فسيتحول الأمر بمرور الوقت إلى أداء شكلي روتيني بلا روح، وسيزحف إلى من يفعل ذلك الشعور بالفتور والوحشة وضيق الصدر، وسيفقد تأثيره على الآخرين شيئًا فشيئًا.
من هنا تظهر الحاجة إلى البدء بالتربية الإيمانية بمفهومها الصحيح (?) والذي يعمل باستمرار على توليد القوة الروحية، وتنمية الدافع الذاتي، وتقوية الوازع الداخلي، وبث الروح في الأقوال والأفعال، ومن ثم يسهل على المرء بعد ذلك القيام بالأعمال المطلوبة لتحقيق أهداف التربية النفسية والحركية "إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" [المؤمنون: 57، 61].
* * *
بعد أن تعرفنا على الاحتياجات التربوية للفرد المسلم، وضرورة التكامل بينها، وخطورة إهمال جانب منها، يصبح من اليسير تشخيص الحالة التربوية لأي شخص.
بمعنى أن المحاور التربوية الأربع السابق ذكرها يمكنها أن تُشكل المنظار الذي من خلاله يتم تقييم الفرد واحتياجاته التربوية.
فعلى سبيل المثال: لو تحدث إنسان وأجاد التعبير، وجادل وناظر، وأبهر من حوله بمعلوماته الغزيرة فإن ذلك ينبغي ألا يبهر المربي الذي يريد تحديد مستواه واحتياجاته التربوية، فالعلم الغزير لا يكفي، ناهيك عن مدى قربه أو بعده من مفهوم العلم النافع، بل لابد وأن يصحبه التزام صحيح بالعبادات والمعاملات في دوائر الحركة المختلفة، مع نكران للذات وتواضع غير مصطنع، وأيضًا: جهد يبذل في سبيل الله وتبليغ دعوته.
الرؤية التربوية إذن هي «المنظار» الذي من خلاله يتم تحديد جوانب النقص التربوي عند الفرد أيًّا كان موقعه أو عمره أو ثقافته، وعلى ضوء هذه الرؤية يتم تحديد احتياجاته التربوية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا المنظار ينبغي أن يستخدمه كل منا مع نفسه أولا، وأن يوجهه إلى ذاته ليرى جوانب نقصه، ويحدد احتياجاته.
وفي المقابل عليه ألا يوجهه إلى الآخرين طالما أنه لا يقوم على أمر تربيتهم، فليس المطلوب منا تقييم من حولنا طالما لا يوجد مبرر شرعي لذلك.
ولنتذكر أن من أعظم شهوات النفس الخفية الكلام عن الآخرين، وتقييم مواقفهم، وتجريحهم لأنها حينئذ تشعر بتميُّزها عليهم، ومما يجعلها تستصغر أي نقص لديها، وشيئًا فشيئًا يتعود المرء على ذلك حتى يتحقق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه» (?).