لو جاز لأحد أن يترك نفسه بدون زاد، لجاز لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، فمع انشغاله الشديد بتبليغ دعوة ربه، نجد الخطاب الإلهي الموجه إليه: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ" [الشرح: 7]، أي إذا فرغت من الجهاد، ودعوة الناس، فانصب للعبادة (?).
والذي يتأمل واقعه صلى الله عليه وسلم يجده حريصا على دوام ذكر الله، وقراءة القرآن، وقيام الليل، لدرجة أنه لم يترك القيام في سفر أو حضر كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها (?).
ولك أن تتأكد أكثر وأكثر بضرورة عدم التهاون في التزود اليومي بالزاد النافع إذا ما قرأت هذا الحديث:
عن أوس بن حذيفة الثقفي أنه كان في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني مالك فأنزلهم في قبة في المسجد، قال: فكان يأتينا فيحدثنا بعد العشاء، وهو قائم حتى يراوح بين قدميه من طول القيام .. فاحتبس عنا ليلة،
فقلنا: يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث! فقال: «نعم طَرَأ
علىّ حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه» (?).
وعلى هذا النهج كان الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا دوما يوازنون بين الزاد والحركة، ويدركون خطورة إهمال التزود؛ فهذا عبد الرحمن بن عبد القاري يقص علينا قصة عجيبة حدثت له مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: استأذنت على عمر بالهاجرة، فحبسني طويلا، ثم أذن لي وقال: إني كنت في قضاء وردي (?).
وإن تعجب فعجبٌ فعل الأوائل في المعارك .. فعلى الرغم من الجهد العظيم الذي يُبذل في ساحات القتال إلا أننا نجدهم يحرصون على قيام الليل، وتلاوة القرآن، والتضرع إلى الله عز وجل!! ولك أن تتأكد من هذا المعنى بقراءة هذا الخبر:
بعد معركة القادسية؛ والتي استمرت بضعة أيام، وانتهت بانتصار جيش المسلمين على جيش الفرس أرسل قائد الجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة يبشره فيها بالفتح، فكان مما جاء فيها:
«وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان، ورجال من
المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم .. كانوا يدوون بالقرآن إذا جن
عليهم الليل كدوى النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود» (?).
وعندما ننظر إلى حال المصلحين الذين كان لهم أثر إيجابي في تاريخ
الأمة، نجدهم قد حققوا التوازن بين الاهتمام بتحصيل الزاد وبين الحركة وبذل الجهد في سبيل الله.
يقول القاضي ابن شداد عن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي:
وأما الصلاة، فكان -رحمه الله- شديد المواظبة عليها، حتى إنه ذكر يوما أنه من سنين ما صلى إلا جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ من الليل، وإلا أتى بها قبل قيام الفجر، وكان -رحمه الله- يحب سماع القرآن العظيم، وكان خاشع القلب، غزير الدمع، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته (?).
وعندما نقرأ في رسائل الإمام المجدد حسن البنا، نجد أن هذا المعنى واضح تمام الوضوح في كلامه.
يقول -رحمه الله- في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: