ومع دوام إمداد القلب بالإيمان على المرء ألا ينسى نفسه، أو يغفل عنها، وعليه أن يسيء الظن بها، مع مجاهدتها دوما على لزوم الصدق والإخلاص لله عز وجل، وعليه عدم التوجه بالعمل لغيره سبحانه، وكذلك فإن عليه أن يربي نفسه على الاستعانة بالله في أموره كلها، وأن يضبط فرحه بعد نجاحه في أداء العمل، وأن يجعل هذا الفرح: فرحًا بالله وبفضله أن أعانة ووفقه على إتمام هذا العمل، وعليه أيضا أن يربي نفسه على نكران الذات، والتواضع، وأن يكون في
عين نفسه صغيرا، وأن يرى الناس جميعًا أفضل منه، وأن يلازمه الشعور باليأس من النجاة بعمله، وأن عمله مهما كثر فلن يوفي مثقال ذرة من حق الله وديَنْه المستحق، وأن يوقن بأن نجاته متعلقة بعفو الله عنه ورحمته إياه ..
هذه المعاني لا يكفي مجرد معرفتها لكي تتحقق، بل لابد من ممارستها، والتربية عليها، واختبار النفس دوما فيها.
ومع الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية لابد من الاهتمام كذلك بالتربية الحركية التي تهدف إلى التعود على بذل الجهد في سبيل الله وتبليغ دعوته.
ولا يكفي -كما أسلفنا- أن يتحرك ويبذل جهده من أجل خدمة دينه حسبما تتحين ظروفه، بل ينبغي أن تشكل عنده «منهج حياة»، وأن يضعها في أولوياته عندما يخطط لوقته.
هذه المحاور الأربعة للتربية علينا الاهتمام بها جميعًا، وعدم التركيز على محور دون الآخر، ولو حدث هذا لكان النتاج: تشوه في الشخصية، وعدم ظهور ثمرة التربية المتكاملة ألا وهي تحقيق العبودية لله عز وجل بمفهومها الصحيح.
فعندما يحدث اهتمام بتحصيل العلم دون الاهتمام بزيادة الإيمان، فستكون النتيجة المتوقعة: شخص كثير التنظير، حافظًا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ والمعاني العظيمة، لكنك تجد في المقابل واقعا يختلف عن الأقوال والتنظيرات، فهو يتحدث عن العدل والمساواة، بينما لا يتعامل هو مع الآخرين بهذه القيم وبخاصة مع من يرأسهم .. يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة في حين يحرص على جمع المال، وينفق منه بحساب شديد، ويدقق في كل شيء، وفي أتفه الأمور.
كل هذا وغيره بسبب عدم الاهتمام بالإيمان بنفس درجة الاهتمام بالعلم، فالذي يقرب المسافة بين القول والفعل، ويترجم العلم إلى سلوك هو الطاقة والقوة الروحية المتولدة من الإيمان كما أسلفنا.
أما عندما يتم الاهتمام بالإيمان دون العلم فستجد أمامك شخصا جاهلا مشوها يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، ويترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه.
ستجد شخصا ضيق الأفق لا يستطيع أن يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر، ولعل في قصة التائب -قاتل المائة- ما يؤكد ذلك، فهذا الرجل الذي كان قد قتل تسعًا وتسعين نفسا ثم تاقت نفسه للتوبة فسأل عن أعبد الناس فدلوه على راهب، فذهب إليه وأخبره بما فعله ثم سأله: هل لي من توبة؟!! فكانت إجابته بالنفي تعكس مدي جهله بالله عز وجل الغفور الرحيم، فما كان من الرجل إلا أن قتله بعد أن يأَّسه من التوبة، ليكمل به الضحية المائة.
وبعد ذلك تاقت نفسه مرة أخرى للتوبة، فسأل عن أعلم الناس، فدلوه على عالم بمفهوم العلم الصحيح ألا وهو العلم بالله وبأحكامه فذهب إليه وسأله: هل لي من توبة بعد كل ما فعلته؟!، فطمأنه هذه العالم، وأجابه بأن له توبة فالله -عز وجل- يغفر الذنوب جميعًا، ثم طلب منه أن يغادر بلدته إلى بلدة أخرى حتى تحسن توبته بوجوده في وسط طيب لا يُذَكِّره بماضيه.
فما أضر على الإنسان من الجهل!! وما أخطر على الإنسان من ضعف الإيمان!!