وكثيرًا ما يذكِّر القرآن بأهمية استخدام العقل في التفكر والاعتبار لفهم آيات الله المبثوثة في كونه: "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [النحل: 12].
وحين يُعطل المرء عقله، ولا يستخدمه فيما خلق من أجله فقد سفِه نفسه، وظلمها ظلمًا عظيمًا لأنه بذلك قد سار بها إلى الهاوية .. تأمل معي حال أهل النار -والعياذ بالله- وهم يتذكرون أسباب هلاكهم وضياعهم "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 10] .. والملاحظ أنهم لم يذكروا كفرهم أو شركهم أو معاصيهم وهم يؤنبون أنفسهم على ما وصلوا إليه، بل ذكروا تعطيلهم لعقولهم عن الاستخدام الصحيح.
نعم، لو استخدموا عقولهم وتفكروا في آيات الله المرئية في كونه، والمقروءة في رسالاته، لتعرفوا على ربهم، ومن ثمَّ لأطاعوه وعبدوه ولما كفروا ولما أشركوا، ومن ثم لما دخلوا النار، لذلك كان التعقيب الإلهي على اعترافهم بالحقيقة "فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 11].
بالفعل: إن ذنبهم الأكبر هو هذا الذنب، وما الكفر، وما الشرك، وما الكبر، إلا توابع لتعطيل العقل، فالذي يعطل هذه النعمة العظيمة فإنما يحرم نفسه من خير عظيم كان في متناول يده، ومن ثم تنحط مرتبته، ويهبط ويهبط حتى يصبح "أَسْفَلَ سَافِلِينَ" [التين: 5].
"أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً" [الفرقان: 44].
وصدق عباس العقاد حين قال: «التفكير فريضة إسلامية».
إن كان العقل هو محل العلم والمعرفة، فإن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل العبد بتحصيله هو العلم بالله عز وجل، وكيف لا ومن خلاله تتحقق العبودية الحقة له سبحانه، لذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56] أي: إلا ليعرفون.
لماذا؟!
لأنهم إذا عرفوه: أحبوه، وعظموه، وهابوه، وأطاعوه، وتوكلوا عليه ...
جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب، أي عبادك أخشى لك؟
قال: أعلمهم بي (?).
إذن فتحصيل العلم بالله هو أهم غاية لخلق العقل، وأي علم آخر فينبغي أن يكون تابعًا له، وفرعًا منه .. ألم يقل سبحانه "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: 19].
فلكي يدرك المرء حقيقة التوحيد، ويوقن بها فإنه يحتاج إلى التعرف على ربه من خلال آياته الدالة عليه "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [فصلت: 53].