وأما استشهاده بقصة أنس فانا نطلب ممن وقف عليها مسندة في غير هذه الحكاية
أن يتحفنا بها، لكن لا من طريق ابن الثلجي، ولا الحسن اللؤلؤي وأمثالهما، ولا أن
تكون بسند فيه أبو حنيفة لأنها ادعيت لذكائه، فالتهمه فيها ظاهرة.
وأسند ابن عبد البر ص 159: إلى حمزة بن عبد الله الخزاعي: أن أبا حنيفة هرب من
بيعة المنصور (مع) جماعة من الفقهاء، قال أبو حنيفة: لي فيهم أسوة، فخرج مع
أولئك الفقهاء، فلما دخلوا على المنصور أقبل على أبي حنيفة وحده من بينهم، فقال له:
أنت صاحب حيل، فالثه شاهد عليك، أنك بايعتني صادقاً من قلبك، قال: الله
يشهد عليّ حتى تقوم الساعة، قال: حسبك. فلما خرج أبو حنيفة قال له أَصحابه:
حكمت على نفسك ببيعته حتى تقوم الساعة، قال: إنما عنيت حتى تقوم الساعة من
مجلسك إلى بول أو غائط أو حاجة أو حتى يقوم من مجلسه ذلك. اهـ
والعجب لحاكي الحكاية أن يخفى عليه حديث: "يمينك على ما يصدقك عليه
خصمك لما (?) لعله لا يصدق به، وإن كان في الصحيح - صحيح مسلم- لأنه ليس على
شرط أصحاب العقلية الجبارة، فلعله عندهم شاذ أو مرفوض بالرأي الحسن
والأصول التي أصلها صاحب العقلية الجبارة.
فأبو جعفر المنصور فهم من عهد أبي حنيفة، واشهاد الله عليه التأييد من قوله:
(حتى تقوم الساعة) وهو الفهم المتبادر من أمثال هذا التعبير، وأبو حنيفة قصد إلى
فهم بعيد خفي لا يدل عليه سياق ولا قرينة ولا شاهد حال.
وبعد فلو فتحنا هذا الباب من التلاعب بالألفاظ والكنايات الخفية لما استقام
للناس عهد ولا عقد ولاخْتَلَّتْ معاملاتهم وعقودهم ولم يبق اطمئنان ولا ثقة بعهد ولا
عقد ولا قسم، وخذ ما شيءت من الفوضى ومرج العهو د ما شيءت في ذلك، ولوخرج