والأيام نسخًا لا تتبدل ولا تتغير. والواقع غير ذلك، فالأمة الإسلامية عرفت تغيرات جذرية عميقة، والعالم كله خضع لانقلابات اجتماعية مهولة. وهذا يفرض علينا إعادة النظر في ترجيحات واختيارات الأوائل, لأنّ ما كان راجحًا في زمانهم ليس هو بالضرورة الراجح في زماننا، وهذا ما يعبر عنه بالاجتهاد الانتقائي، الذي مارسه أسلافنا من قبل فيما يعرف "بالعمل"، ونحن في أمس الحاجة إليه الآن، ولا تتم هذه العملية إلا بإخراج الكتب التي اعتنت بالتشهير والترجيح وتضمنت الأقوال التي حكم عليها بالضعف أو الشذوذ لظروف زمانية أو مكانية متغيرة.
فالقول إذاً بالاكتفاء بما هو موجود غير مسلم.
والمتأمل في المسيرة العلمية المعاصرة يلاحظ أنها لا زالت في بداية طريقها رغم الجهود الخيرة المبذولة والتي لا يمكن أن تخطئها عين الملاحظ. إلا أنه رغم ذلك لا يمكننا أن نعتبر تلك الجهود كافية ومرضية، وخاصة بالنسبة للتراث الفقهي المالكي الذي لا زال كثير من عطاء أساطينه حقلًا غُفلًا لا نعرف عنه إلا القليل، ولا يعوزني الدليل على ذلك، فالنماذج كثيرة أكتفي بالإشارة إلى تراث الإمام الذي بين يدي الآن، أعني أبا الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي، المترفع عن درجة التقليد إلى رتبة الاجتهاد والترجيح. والذي يعد اجتهاده قولاً داخل المذهب ولا تكاد تجد كتابًا من كتب المالكية المعتبرة إلا وينقل عنه ويستشهد بأقواله.
هذا الإمام على جلالته ومكانته الرفيعة لم يحقق له أي كتاب ولم تنجز عنه أية دراسة- حسب علمي- إلى هذه اللحظة.
كل ما سبق ذكره أقنعني بمشروعية وأهمية البحث في التراث الفقهي وحقل المخطوطات. لكن كنت أتهيب اقتحام ذلك العالم لما للخوض فيه من مثبطات ومعوقات، سواء على مستوى الحصول على المخطوط أو قراءته أو تحقيقه وإخراجه. ولا يستطيع تجاوز ذلك إلا من أوتي صبراً طويلاً ونفسًا عميقًا، وأخذ بناصية أدوات التحقيق وانقادت له آلياته. وأنا لا أرى نفسي كذلك، فزادي قليل وبضاعتي مزجاة. لكني أقدمت على ارتياد