مطلب في التفرغ

التفرغ أمنية كثير من العاملين الصالحين؛ إذ هو مظنّة تحقيق كثير من أهدافهم وتطلعاتهم, والتفرغ فرصة جيدة لمراجعة الإنسان أحوالَه, ومحاولة إقامتها على الجادّة؛ إذ داومة الحياة اليومية قد تمنع المرء الالتفات إلى أحواله وشؤونه وإصلاحها وتقويمها.

قال ابن جُزَيءْ (?) رحمه الله تعالى:

لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغُ

لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي في الحياة بلاغُ

ففي مثل هذا فلينافس أولو النُهى ... وحسبي من الدنيا الغَرور بلاغُ

فما العيش إلا في نعيم مؤبد ... به العيش رغد والشراب يُساغُ (?)

وللتفرغ تعلق لا يخفى بموضوع الكتاب: التوازن عند التنازع؛ إذ لا يُتوصل لتحقيق التوازن المطلوب لإشباع النوازع المختلفة إلا بحظ وافر من التفرغ أو بتفرغ كامل.

والذين يمكن لهم أن يتفرّغوا للحصول على مطلوبهم عدد قليل بلا شك؛ إذ تكاليف الحياة وكثرة شواغلها ومشاكلها تمنع من التفرغ الكلي أو الجزئي, ولكنه لا بد مما ليس منه بُدُّ, وما لا يدرك جُلّه لا يترك كُلّه.

والناظر إلى أحوال الأئمة المؤثرين في التاريخ الإسلامي يجدهم متفرغين تماماً لما وفقهم الله تعالى إليه ومنقطعين لتحقيقه وإتقانه, فهؤلاء أئمة الفقه الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله جميعاً لم يؤثر عنهم إلا الانقطاع للعلم دراسة وتدريساً, وكذلك أمثالهم من الأئمة نحو النووي وابن تيمية (?) والسيوطي .. إلخ.

ولا تنس - أخي - أنني قد ذكرت أن حياتهم لم تكن كحياتنا, فلم تكن الدنيا لتأخذ منهم ما أخذت منا, وليست هممهم كهممنا.

إذا كان الأمر كذلك فهل هذا التفرغ المنشود أمر ميسور أم هو خيال طامح لا يعدو أن يكون سراباً؟

الإرشادات في هذا الباب تعين على تحصيل التفرغ أو بعضه

لا, بل هو أمر سهل ميسور على من يسره الله عليه, وإليك - أخي القارىء - جملةً من الإرشادات في هذا الباب تعين على تحصيل التفرغ أو بعضه:

1 - الحصول على عمل قريب من تطلعات المرء ورغباته:

كأن يكون إمامَ مسجد مثلاً, فهذا يساعده على التفوق في دراسة العلوم الشرعية، وكذلك يشبع نازع التعبد ونازع الدعوة ... إلخ.

أو يصبحَ مدرساً للعلوم الشرعية، وهذا كسابقه، ويمكن - توفيراً لمتطلبات العيش - الجمع بينهما.

أو يصبحَ صاحب مكتبه إسلامية تحقق له جملة من النوازع وتعطيه قدراً كافياً من التفرغ، وهكذا ...

2 - الحصول على إجازة طويلة من العمل:

وهذا بوسع كل الموظفين - تقريباً - أن ينالوه؛ إذ يستطيعون الحصول على إجازة تبلغ سنة بدون راتب مما يمكنهم أن يشبعوا جملة من النوازع والمطالب.

وإن احتج أحد بضيق الحال يقال له: اجمع من راتبك بالقدر الذي يكفيك أثناء تفرغك، والقناعة كنز لا يفنى.

والأكاديميون يُسمح لهم كل عدد معين من سنوات العمل بالحصول على إجازة سنة كاملة للتفرغ للبحث.

3 - استبدال العمل الخفيف بالعمل الشاق:

يمكن عمل هذا بالتضحية قليلاً ببعض المزايا المادية مقابل الحصول على تفرغ نسبيّ، فإني أعرف - مثلاً - طبيباً يعمل في مستشفى حكومي من الساعة الثامنة إلى الخامسة تقريباً، ويمكن له أن يعمل في مستشفى خاص من الثامنة إلى الواحدة وذلك بتنازل يسير عن قليل من المزايا المادية، فإذا أراد هذا الطبيب الالتفات إلى نوازعه ومتطلباته وتحقيقها بدرجة مُرْضية فليس عليه إلا أن يستبدل الوظيفة الثانية بالأولى، مع مراعاة أن هذا الطبيب ليست الأمة في حاجة ماسة لطبه، فإن كان طبيباً متميزاً ماهراً فإنه لا يصح ولا ينبغي له الالتفات إلا لطبه الذي يفيد به أمته ويرفع عنها الذل والهوان - بعد فروض الأعيان -

وهكذا الشأن فيمن يعمل زمانين: صباحاً ومساء فليس عليه إلا أن يترك أحدهما إلا أن تدفعه ضرورة ملحة للجمع بينهما.

وكذلك حال إخواننا التجار ممن يعمل مدداً طويلة ويرغب في تحقيق بعض النوازع والتطلعات، فليس أمامه إلا أن يتريث قبل أن يعصر زمان شبابه لكسب مادي مجرد قد يزخرفه تحت دعاوى كثيرة.

4 - التقاعد المبكر:

كثير من موظفي الدولة يسمح لهم بالتقاعد المبكر بعد مضي عشرين سنة على بدء العمل، فيُعطى نصفَ راتبه شهرياً مما يمكنه - غالباً - من التفرغ مع دخل مادي مناسب، وهذه فرصة عظيمة لمن تناوشه نوازعُ نفسه وتلح عليه أن يستجيب لها منذ أمد بعيد، ولا يلتفت إلى وساوس الشيطان ووعده له بالفقر فالله تعالى لن يضيع عبداً أقبل عليه وضحّى من أجله.

هذه أفكار مطروحة لتحقيق التفرغ الكامل أو الجزئي.

ولكن قد يقول قائل: إن دعوتك هذه لتحقيق التفرغ قد تؤدي إلى تعطيل قسم ناشط من المجتمع، وكبح طموحه الوظيفيّ، وتتدرج بالموظف إلى التبرم من وظيفته وتصورها حجرَ عثرة في طريقه، وللإجابة على هذا أحيل القارئ إلى الفقرة التالية:

ضوابط لمسألة التفرغ:

أولاً: التفرغ ليس مطلوباً لكل أحد ولا من كل أحد:

بمعنى أن طالب التفرغ إنما يطلبه لتحقيق أمانيّ ونوازع ومطالب في نفسه لا يحققها إلا التفرغ الكلي أو الجزئي، فهو لهذا يسعى له ويجاهد للحصول عليه، ثم إنه لا يسعى لهذا إلا بعد التأكد من أن لديه قدرةً مالية يُسيرّ بها شؤونه ومتطلبات حياته.

والتفرغ ليس مهماً إلا لعدد محدود ذوي مواهبَ وقدرات واضحة بارزة، بحيث يكون التفرغ لأمثالهم على غاية من الأهمية والإيجابية.

ولضرب المثل على أهمية التفرغ لبعض الناس فإني أذكر حال واحد من إخواني يعمل في وظيفة إدارية هامشيّة منذ عشرين سنة، وعمله هذا يمكن أن يقوم به موظف مبتدئ، ولأخي هذا طموحاتٌ كثيرة وتشتعل في نفسه نوازع متعددة لا يحققها إلا تفرغ كامل، وهو قد بلغ الأربعين، فصرت أبين له أهمية أن يحصل على تقاعد مبكر ويتخلصَ من هذه الوظيفة التي سلبته أثمن أوقاته وزهرة شبابه، ولكنه متردد إلى الآن على الرغم من وضوح الفائدة في تقاعده المبكر، والله أعلم.

فإذا لا يكون التفرغ لكل أحد، بل لأمثال أخي هذا ومن شاكله.

ثانياً: وجوب تنسيق زمن التفرغ وترتيبه حتى تكمل الاستفادة منه:

إذ الحاصل على التفرغ الكامل أو الجزئي لا بد له من أن يضع لنفسه أهدافاً محددة لتحقيقها زمن تفرغه، فلا تضيع منه هذه الفرصة الثمينة هباءً، فكم من موظف تفرغ للدراسة ثم لم يُوفّق، وكم من مضيع لتفرغه في عمل مفضول ليس من ورائه طائل.

ثالثاً: وجوب التنسيق بين مريدي التفرغ:

فلا يتفرغ اثنان في تخصص واحد إلا لحاجة ماسة، ولا يتفرغ اثنان لتأدية عمل معين يمكن أن يؤديه متفرغ واحد.

وينبغي أن يُحرص على ((العمل بجد على أن يتفرغ عدد من الكفايات في المواقع الإستراتيجية الهامة، وخصوصاً في مجال العلم والفكر، ومجال التربية والتكوين، ومجال الدعوة والإعلام ... )) (?).

((ومن الضروري أن يُراعى عند التفرغ التنوع والتكامل حتى تسد كل الثغرات، ولا يقع تركيز في جانب على حساب جانب أو جوانب أخرى، فلا يوجد إسراف إلا بجانبه حق مضيع)) (?).

رابعاً: ضبط الإنفاق الماديّ على مريدي التفرغ:

الإنفاق على مريدي التفرغ من المهمات التي يشجع القادرون عليها؛ إذ أن التفرغ من المهمات التي يشجع القادرون عليها؛ إذ أن التفرغ يعود على الفكر الإسلامي بفوائد إيجابية مهمة.

((ولا يجوز أن يكون المال عقبة في سبيل هذه الغاية، فإن بذلك المال لذلك من أهم ما يتقرب به إلى الله، ويمكن أن يصرف فيه من أموال الزكوات والصدقات والأوقات والوصايا وغيرها ... ولا يجوز للعاملين المخلصين أن يستنكفوا من أخذ الأجر الكافي الملائم لأمثالهم لو عملوا في أي مجال آخر حتى يستمروا في العمل ولا يتبرموا به، المهم هو العدل في غير إسراف ولا تقتير)) (?).

وفي نهاية هذا المطلب أريد أن أبين أن التفرغ لابد أن يُضحى له ببعض المزايا المادية، والقناعةُ باليسير أمر مهم في هذا الباب، والعائد من التفرغ على الشخص أهم بكثير مما يمكن أن يفقده حال تفرغه، والله أعلم.

مطلب في الترويح والاستجمام

وكلاهما بمعنى طلب الراحة للجسد والفؤاد، ويقال:

((إني لاستجم قلبي بشيء من اللهو - أي المباح - لأقْوى به على الحق)) (?).

ولما كانت النوازع المذكورة سابقاً كلها تُعدّ من الحق وأخذ النفس بالشدة وقسرها على مكروهاتها، لما كان الأمر كذلك كان لابد من ذكر ما تستريح إليه النفس ونشده الجسد مما هو من اللهو المباح أو م غيره.

((وليس معنى هذا أن يسرف الناس في اللهو ويُفْرطوا في المزح، ولكن المقصود ألا يعيش الناس في جو مملوء بالكآبة مشحون بالمضايقات حتى تختفي فيه معالم الفرح والبهجة، بل ينبغي كلما أحس الناس بذلك أن يلجأوا إلى اللهو المباح الذي لا يخلّ بالمروءة ولا يخدش الكرامة، ويخرج بصاحبه عن حياة الجد والعمل الدائب النافع)) (?).

فوائد الترويح وعلاقته بالمبحث:

والترويح يحقق عدداً من الأمور تخدم تحقيق النوازع المذكورة سابقاً، منها:

أولاً: سدُّ حاجة الأهل والأولاد من جلوسهم مع عائلهم:

إذ المرأة تحتاج للجلوس مع زوجها بعض الوقت، والأولاد محتاجون للجلوس مع والدهم بعض الوقت أيضاً، فالترويح المشترك مع الأهل والأولاد محقق لهذا الجانب الاجتماعي المهم في حياة الإنسان.

ويمكن أن يجمع المرء عدداً من أهله أيضاً فيشركهم معه في ترويحه كأبيه وأمه وإخوته فيقضي لهم حقاً ما كان يجد له وقتاً.

وإذا روّح المرء نفسه بهذا ستر نفسه عن كثير من السهام اللائمة، والله أعلم.

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس بين نسائه فيشهد غيرتهن ويضحك لها، وكان يمكّن عائشة من رؤية الحبشة وهم يلعبون، وكان يحمل أحفاده ويُسرّ برؤيتهم، وهذا منه تعليم لنا - صلى الله عليه وسلم -.

ثانياً: سدُّ حاجة الجسد من الحركة اللازمة له:

حيث إن الترويح أنواع، فمنه العقلي، ومنه الجسدي، ومنه ما هو جامع بين الاثنين، والترويح الجسدي مهم لتحقيق حاجة الجسم من الحركة اللازمة لإقامته واستمرار نشاطه.

ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - قد سابق عائشة مرتين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الرمي ويحث الصحابة عليه.

ثالثاً: الترويح عن النفس مدعاة لاستزادتها من الخير:

حيث إن طبيعة الإنسان الجاد ذي الأهداف الخيِّرة أنه متى ما استراح إلى شيء من اللهو المباح فإنه يشعر أثناءه بعظم التبعة الملقاة عليه وصعوبة تحقيقها إن لم يَهْرعْ إلى ما كان عليه قبل لهوه، ويحث مطاياه على السير في ركاب الخير.

هذا وليُعلم أن الترويح ليس له حدٌّ معين، بل إن شعر المرء أنه قضى حاجته منه فها حدّه.

والترويح ليس له ضابط إلا الحل والحرمة، وما يخرم المروءة، أمّا غير ذلك فلا، والله أعلم.

وإذا كان الأمر كذلك فالترويح ميادينه كثيرة جداً، تتنوع حسَب ميول الشخص وما يهواه، والعاقل السعيد من روّح عن نفسه وأهله بنية التقوي على العبادة، وفي الميادين التي تخدم أهدافه وما يتطلع إليه، والله الموفق.

تنبيه مهم

لتعلم - أخي القارئ - أن الترويح والمستراحَ إليه أمر نسبيّ يختلف من شخص لآخر، فرُبّ شخص يستريح إلى قراءة القرآن وحفظه، وآخر يستريح إلى قراءة كتب السَّمر، وثالث يفزع إلى إخوانه في الله فيستريح إليهم، ورابعٌ راحته في التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار، وهكذا ...

إذاً ليس من الضروريّ أن يكون الشيء المستراحُ إليه والمستجمُّ به لهواً أو مَحْضَ تضييع للأوقات، بل يمكن أن يكون في الاسترواح فائدةٌ عظيمة.

وانظر إلى ابن عقيل الحنبيلي (?) رحمه الله تعالى صاحب ((الفنون)) كيف يُروِّح عن نفسه:

((إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح)) (?).

هكذا كان أئمتنا، وهكذا نرجو أن نكون، إن شاء الله تعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015