فَيَسْقُطُ قَوْلُهُ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ تَحْتَمِلُ حَالَ الرُّوَاةِ وَتَحْتَمِلُ حَالَ الْمُسْتَفْتِينَ فَالْفَاجِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الرُّخَصَ فَلَا يُفْتِيهِ بِالْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَسْكَرُ، وَالْحَقُّ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ أَنَّ الْخَصْلَةَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ، وَلِلْمُفْتِي رَدُّ الْفَتْوَى وَفِي الْبَلَدِ غَيْرُهُ أَهْلٌ لَهَا شَرْعًا خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ، وَإِلَّا لَزِمَهُ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ جَوَابُ مَا لَمْ يَقَعْ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ السَّائِلُ وَلَا يَنْفَعُهُ بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَحْرُمُ إلْقَاءُ عِلْمٍ لَا يَحْتَمِلُهُ وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَا يَنْبَغِي.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِّثُوا النَّاس بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَمُسْلِمُونَ هُمْ فَقَالَ لِلسَّائِلِ أَحْكَمْتَ الْعِلْمَ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْ ذَا وَيُفْتَى أَخْرَسُ بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، وَكَانَ السَّلَفُ يَهَابُونَ الْفُتْيَا وَيُشَدِّدُونَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَهَا وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَوْ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيَتَكَلَّمُ وَإِنَّهُ لَيَرْعَدُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي الْمُوَفَّقِ إذَا نَزَلَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ قَلْبِهِ الِافْتِقَارَ الْحَقِيقِيَّ الْحَالِيَّ لَا الْعِلْمِيَّ الْمُجَرَّدَ إلَى مُلْهِمِ الصَّوَابِ وَمُعَلِّمِ الْخَيْرِ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ طُرُقَ السَّدَادِ وَأَنْ يَدُلَّهُ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَجْدَرَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ أَنْ لَا يَحْرِمَهُ إيَّاهُ (وَالْمُسْتَفْتِي مَنْ لَيْسَ إيَّاهُ) أَيْ مُفْتِيًا (وَدَخَلَ) فِي الْمُسْتَفْتَى (الْمُجْتَهِدُ فِي الْبَعْضِ) مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ (بِالنِّسْبَةِ إلَى) الْمُجْتَهِدِ (الْمُطْلَقِ) نَعَمْ حَيْثُ قُلْنَا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ مُسْتَفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ، وَيَنْبَغِي لَهُ حِفْظُ الْأَدَبِ مَعَ الْمُفْتِي، وَإِجْلَالُهُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَتَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ السُّؤَالِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الْآيَةَ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» وَفِي لَفْظٍ «إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَرِهَ السَّلَفُ السُّؤَالَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ كَوْنِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا قَالَ سُدِّدَ وَوُفِّقَ، وَإِنَّكُمْ إنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتُ بِكُمْ السُّبُلُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا» وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَلَهُ أَيْضًا وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «نَهَى عَنْ الْغُلُوطَاتِ» قِيلَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَأَحَدُهَا غَلُوطَةٌ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا وَأَصْلُهَا الْأُغْلُوطَاتِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ هِيَ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَيْفَ وَكَيْفَ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سَيَكُونُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يُغَلِّطُونَ فُقَهَاءَهُمْ بِعَضْلِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» . وَقَالَ الْحَسَنُ شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ شِدَادَ الْمَسَائِلِ يُغَمُّونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ فَلَقَدْ رَأَيْتَهُمْ أَقَلَّ النَّاسِ عِلْمًا وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ نَهَى السَّلَفُ عَنْهَا قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَالْمُسْتَفْتَى فِيهِ) الْأَحْكَامُ (الْفَرْعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْعَقْلِيَّةُ وَلِذَا) أَيْ كَوْنِ الْمُسْتَفْتَى فِيهِ قَدْ يَكُونُ حُكْمًا عَقْلِيًّا (صَحَّحْنَا إيمَانَ الْمُقَلِّدِ، وَإِنْ أَثَّمْنَاهُ) بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ الْعَقْلِيُّ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفْتًى فِيهِ لَمْ يُصْحَحْ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْعَقَائِدِ وَأَمْرُ الْقَوَاعِدِ الْمُتَظَافِرُ عَلَى ثُبُوتِهِ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالنَّقْلِيُّ الْقَطْعِيُّ نَعَمْ لَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ تَجْوِيزِ شُبْهَةٍ فَلَا جَرَمَ إنْ قَالَ صَاحِبُ الصَّحَائِفِ مِنْ اعْتَقَدَ أَرْكَانَ الدِّينِ تَقْلِيدًا فَإِنْ اعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ جَوَازَ شُبْهَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَقِيلَ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِتَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَةِ