الصَّوْمِ يَحْصُلُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْ الْكَثْرَةِ بِقَوْلِهِ (اسْتِيعَابُ الشَّهْرِ جُنُونًا) لِأَنَّ الشَّهْرَ تَامٌّ وَقْتُهُ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَثِيرٌ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْكَثْرَةُ فِيمَا إذَا أَفَاقَ بَعْضَ لَيْلَةٍ مِنْهُ لَكِنْ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفِيهِ) أَيْ تَقْدِيرُ الْكَثْرَةِ بِاسْتِيعَابِ الشَّهْرِ (تَأَمُّلٌ) إذْ يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِ بِقَضَاءِ الشَّهْرِ فِيمَا إذَا أَفَاقَ فِي سَاعَةٍ مِنْهُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِ بِقَضَاءِ الشَّهْرِ لَوْ اسْتَوْعَبَهُ وَإِذَا كَانَ الْحَرَجُ مُسْقِطًا فِي هَذَا فَكَذَا فِيمَا قَبْلَهُ وَإِلَّا عَادَ الْأَمْرُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ ثُمَّ قَدْ أُيِّدَ قَوْلُ السَّرَخْسِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ لَمْ تَكُنْ الْأَيَّامُ مِعْيَارًا لِلصَّوْمِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْأَدَاءِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاصِلًا فَلَا يَكُونُ كُلُّ يَوْمٍ مِعْيَارًا لِصَوْمِهِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُؤَيَّدَ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ هُنَا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُقَارِنًا لَهُ لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَارِنَةٌ لِأَحْكَامِهَا كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ اهـ.
(قُلْت) لَكِنَّ هَذَا الزَّعْمَ غَيْرُ تَامٍّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ هَذَا الْبَحْثِ ثُمَّ كَوْنُ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَقْلِيَّةً أَوْ شَرْعِيَّةً لَيْسَ بِالْمُتَّجَهِ بَلْ الْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ كَمَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَا بَأْسَ بِالْإِسْعَافِ بِذِكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمَعْلُولَ يَعْقُبُهَا بِلَا فَصْلٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا فِي الْخَارِجِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ خَصَّصُوا الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ فَجَعَلُوهَا تَسْتَعْقِبُ الْمَعْلُولَ لِأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ كَالْأَعْيَانِ بَاقِيَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا اعْتِبَارُ الْأَصْلِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ بِخِلَافِ نَحْوِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ تَقْدِيمِهَا وَإِلَّا بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا قُدْرَةٍ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ التَّعْقِيبُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الِانْكِسَارَ يَعْقُبُ الْكَسْرَ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ أَنَّهُ لِسُرْعَةِ إعْقَابِهِ مَعَ قِلَّةِ الزَّمَنِ إلَى الْغَايَةِ إذَا كَانَ آنِيًّا لَمْ يَقَعْ تَمْيِيزُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا يَقُومُ بِهِ التَّأْثِيرُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَحَالَةَ خُرُوجِهِ مِنْ الْعَدَمِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكْمُلَ هُوِيَّتُه لِيَقُومَ بِهِ عَارِضُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا اهـ.
وَعَلَى التَّعَقُّبِ مَشَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ مَا فَرْعٍ، ثُمَّ مِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَعْلُولِهَا بِالزَّمَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الْإِيجَادِ بَعْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ مَعَ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّأْثِيرِ بَعْدِيَّةً زَمَانِيَّةً مَمْنُوعٌ لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْمَعْلُولِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ الْعِلَّةَ النَّاقِصَةَ أَوْ التَّامَّةُ الَّتِي هِيَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِلْحَجِّ الْبَيْتُ لِلْإِضَافَةِ) أَيْ الْحَجِّ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَالْإِضَافَةُ مِنْ دَلَائِلِ السَّبَبِيَّةِ (وَلِذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ سَبَبِ وُجُوبِهِ الْبَيْتَ (لَمْ يَتَكَرَّرْ) وُجُوبُ الْحَجِّ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ.
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَشَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ بِدُونِهِ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ وَإِلَّا تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ وَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطُ وُجُوبِهِ إذْ لَا وُجُوبَ بِدُونِهَا لَا شَرْطُ جَوَازِهِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنْ الْفَقِيرِ وَإِلَّا كَانَ أَدَاءً قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ حِينَئِذٍ (فَاتَّفَقُوا) أَيْ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ (فِيمَا سِوَى) سَبَبِ (الصَّلَاةِ) وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا سِوَى سَبَبِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِيهِ وَأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِالْوَقْتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آنِفًا وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ حَيْثُ قَالَ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ سَبَبٌ مَحْضٌ عَلَامَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنِّعَمُ فِيهِ الْعِلَّةُ بِالْحَقِيقَةِ وَأَوْضَحْنَاهُ ثَمَّةَ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَهَا النِّعَمُ إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهَا بِنِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ بِخِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ إذْ مِنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ نِعْمَةُ الْوُجُودِ وَكَمَالُ الْعَقْلِ وَمِنْ قَائِلٍ بِأَنَّهُ نَفْسُ حَدَثِ الْعَالَمِ.
(وَ) سَبَبُ الْوُجُوبِ (لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ الرَّأْسُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ) أَيْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِكِفَايَتِهِ وَيَتَحَمَّلُ ثِقَلَهُ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا وَالْوِلَايَةُ نَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى فَلَا يَكُونُ الرَّأْسُ سَبَبًا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِ الْوَصْفَانِ الْوِلَايَةُ