وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ بَلَغُوا مِنْ الْمَكَارِمِ مَكَانًا قَصِيًّا وَرَفَعَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ مَقَامًا عَلِيًّا وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا دَائِمًا سَرْمَدِيًّا.
(وَبَعْدُ) لَمَّا كَانَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ أَجَلِّ عُلُومِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أُولِي النُّهَى وَالْأَحْلَامِ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ طَائِفَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ وَمَعْشَرًا مِنْ فُضَلَاءِ ذَلِكَ الْأَوَانِ فَشَيَّدُوا بِجَمِيلِ الْمُذَاكَرَةِ وَالتَّصْنِيفِ قَوَاعِدَهُ الْحِسَانَ وَاعْتَمَدُوا فِيمَا حَاوَلُوهُ مِنْ حُسْنِ الْمُدَارَسَةِ وَالتَّأْلِيفِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ شَيْخَنَا الْإِمَامَ الْهُمَامَ الْبَحْرَ الْعَلَّامَةَ وَالْحَبْرَ الْمُحَقِّقَ الْفَهَّامَةَ مُحَقِّقَ حَقَائِقِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ مُحَرِّرَ دَقَائِقِ الْمَسْمُوعِ وَالْمَعْقُولِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ كَمَالَ الْمِلَّةِ وَالْفَضَائِلِ وَالدِّينِ الشَّهِيرَ نَسَبُهُ الْكَرِيمَ بِابْنِ هُمَامِ الدِّينِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَرَفَعَ فِي الْفِرْدَوْسِ عَلِيَّ دَرَجَتِهِ، وَمِمَّا شَهِدَ لَهُ بِهَذَا الْفَضْلِ الْغَزِيرِ مُصَنَّفُهُ الْمُسَمَّى بِالتَّحْرِيرِ فَإِنَّهُ قَدْ حَرَّرَ فِيهِ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ مَا لَمْ يُحَرِّرْهُ كَثِيرٌ مَعَ جَمْعِهِ بَيْنَ اصْطِلَاحَيْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْقِيقَاتِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ تَوْجِيهٍ وَتَهْذِيبٍ مَعَ تَرْصِيعِ مَبَانِيهِ بِجَوَاهِرِ الْفَرَائِدِ وَتَوْشِيحِ مَعَانِيهِ بِمَطَارِفِ الْفَوَائِدِ وَتَرْشِيحِ صَنَائِعِهِ بِالتَّحْقِيقِ الظَّاهِرِ وَتَطْرِيفِ بَدَائِعِهِ بِالتَّدْقِيقِ الْبَاهِرِ وَكَمْ مُودَعٍ فِي دَلَالَاتِهِ مِنْ كُنُوزٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا الْأَفَاضِلُ الْمُتْقِنُونَ، وَمُبْدَعٍ فِي إشَارَاتِهِ مِنْ رُمُوزٍ لَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْكُبَرَاءُ الْعَالِمُونَ.
فَلَا جَرَمَ إنْ صَدَقَتْ رَغْبَةُ فُضَلَاءِ الْعَصْرِ فِي الْوُقُوفِ عَلَى شَرْحٍ يُقَرِّرُ تَحْقِيقَاتِهِ وَيُنَبِّهُ عَلَى تَدْقِيقَاتِهِ وَيَحُلُّ مُشْكِلَاتِهِ وَيُزِيحُ إبْهَامَاتِهِ وَيُظْهِرُ ضَمَائِرَهُ وَيُبْدِي سَرَائِرَهُ وَقَدْ كَانَ يَدُورُ فِي خَلَدِي مَعَ قِلَّةِ بِضَاعَتِي وَوَهَنِ جَلَدِي أَنْ أُوَجِّهَ الْفِكْرَ نَحْوَ تِلْقَاءِ مَدْيَنَ هَذِهِ الْمَآرِبِ، وَأَصْرِفَ عَنَانَ الْقَلَمِ نَحْوَ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ؛ لِإِشَارَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِ - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - إلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ حَالَ قِرَاءَتِي عَلَيْهِ لِهَذَا الْكِتَابِ الْجَلِيلِ وَسُؤَالِ خَلِيلٍ مِنِّي هَذَا الْمَرَامَ بَعْدَ خَلِيلٍ وَكَانَ يَعُوقُنِي عَنْ الْبُرُوزِ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ مَا قَدَّمْته مِنْ الِاعْتِذَارِ مَعَ مَا مُنِيت بِهِ مِنْ فَقْدِ مُذَاكِرٍ لَبِيبٍ، وَمُنْصِفٍ ذِي نَظَرٍ مُصِيبٍ، وَإِلْمَامُ بَعْضِ عَوَائِقَ بَدَنِيَّةٍ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَقُصُورُ أَسْبَابٍ تُقْعِدُ عَنْ إدْرَاكِ مَا هُوَ الْمَأْمُولُ مِنْ الْجَدِّ وَالْبَخْتِ إلَى أَنْ صَمَّمَ الْعَزْمُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْمَرَامِ بِتَوْفِيقِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فَوَقَعَ الشُّرُوعُ فِيهِ مِنْ نَحْوِ عَشْرِ حِجَجٍ وَتَجَشَّمْت فِي الْغَوْصِ عَلَى دُرَرِ مُقَدِّمَتِهِ وَنُبْذَةٍ مِنْ مَبَادِيهِ غَمَرَاتِ اللُّجَجِ ثُمَّ بَيْنَمَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ يَرْكَبُ كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فِي تَقْرِيرِ الْكِتَابِ وَيَكْشِفُ قِنَاعَ مَحَاسِنِ أَبْكَارِهِ عَلَى الْخُطَّابِ مِنْ الطُّلَّابِ بَرَزَتْ الْإِشَارَةُ الشَّيْخِيَّةُ بِالرِّحْلَةِ إلَى حَضْرَتِهِ الْعَلِيَّةِ قَضَاءً لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ مِنْ زِيَارَتِهِ وَتَلَقِّيًا لِلزِّيَادَاتِ الَّتِي أَلْحَقَهَا بِالْكِتَابِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَاسْتِطْلَاعًا لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا بَرَزَ مِنْ الشَّرْحِ وَكَيْفِيَّةِ طَرِيقَتِهِ.
فَطَارَ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِجَنَاحَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ إلَّا وَقَدْ نَشِبَتْ بِهِ مَخَالِبُ الْحَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا قَلِيلًا، وَمَاتَ فَلَمْ يَقْضِ الْعَبْدُ الْوَطَرَ مِمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ التَّحْقِيقَاتِ وَالْمُرَاجَعَاتِ نَعَمْ اقْتَنَصْت فِي خِلَالِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْفَوَائِدِ الشَّارِدَاتِ، وَأَثْبَتُّ فِي الْكِتَابِ عَامَّةَ مَا اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرَاتِ وَالزِّيَادَاتِ ثُمَّ رَجَعْت قَافِلًا وَالْقَلْبُ حَزِينٌ عَلَى مَا فَاتَ وَالْعَزْمُ فَاتِرٌ عَنْ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْغَمَرَاتِ، وَالْبَالُ قَاعِدٌ عَنْ تَجَشُّمِ هَذِهِ الْمَشَقَّاتِ وَانْطَوَى عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ السُّنُونَ حَتَّى كَأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ كَانَتْ فِي سِنَاتٍ غَيْرَ أَنَّ الْأَخِلَّاءَ لَمْ يَرْضَوْا بِإِعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنْ الْقِيَامِ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَا بِرَغْبَتِهِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ بَلْ أَكَّدُوا الْعَزِيمَةَ عَلَى إبْرَامِ الْعَزْمِ نَحْوَ تَحْقِيقِ مَطَالِبِهِ وَكَرَّرُوا الْإِلْحَاحَ عَلَى إعْمَالِ الرَّجْلِ وَالْخَيْلِ فِي الْكَرِّ عَلَى الظَّفَرِ بِغَنِيمَةِ مَآرِبِهِ، وَالْعَبْدُ يَسْتَعْظِمُ شَرْحَ هَذَا الْمَرَامِ وَيَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى مِنْهُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَتَطَاوَلَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمَدُ وَلَيْسَ بِمُنْصَرِفٍ عَنْ هَذَا الْمَسْئُولِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَحِينَئِذٍ