اجتنابه. ولعمري لقد اكثرنا من البيان وكررنا لأن خطأ اصحابنا كثر في ذلك وفحش جدا فاحتجنا إلى المبالغة في البيان، فلنقتصر على ذلك، ولنأخذ في الزيادة في فضل ما ادراكنا بالعقل. وبالله تعالى نعتصم ونتأيد لا إله الا هو.
16 - الكلام في فضل قوة ادراك العقل على ادراك الحواس.
واعلم أن الحواس السليمة قد تقصر عن كثير من مدركاتها وقد تضعف عنها وقد تخطئ ثم لا يلبث أن يستبين للنفس [79ظ] غلطها وتقصيرها وما خفي عنها وتدركه ادراكا تاما على حقيقته. وادراك العقل في كل ذلك ادراك واحد وبالجملة فالعقل قوة أفرد الباري تعالى به النفس ولم يجعل فيه شركة لشيء من الجسد. وادراك النفس من قبل الحواس فيه للجسد شركة، والجسد كدر ثقيل فادراكها بالعقل إذا نظرت به ولم تغلب عليه الشهوات الجسدية أو سائر أخلاقها المذمومة إدراك صاف تام غير مشوب. ومن أقرب ما نمثل لك به كدر النفس بمشاركتها الجسد وصفائها بانفرادها عنه وخفة الجسد بمشاركة النفس وثقله بانفراده عنها مترى من حال النائم فان جسده حينئذ أثقل وزنا (?) ويعلم ذلك من اكتري من الحمالين فانهم يكثرون نهيه عن النوم حتى إذا استيقظ خف وزنه واستقل. وترى النفس في حال النوم قد تشاهد جزءا من النبوة بالرؤيا الصحيحة مما لا سبيل إلى مشاهدته في حال اليقظة. وهكذا كلما انفردت وتخلت عن الجسد أدركت غوامض الأشياء وصحيح العواقب في الآراء حتى إن المرء في تلك الحال لا يسمع كلام من معه ولا يرى كثيرا مما يحضره.
ثم نعود إلى ما بدأنا به فنقول، وبالله تعالى التوفيق: انك ترى الإنسان من بعيد صغير الجرم جدا كأنه صبي، وانت لا تشك بعقلك انه اكبر مما تراه، ثم لا تلبث ان يقرب منك فتراه على قدره الذي هو عليه الذي لم يشك العقل قط في انه عليه. وكذلك يعرض لك في الصوت. وايضا فأن الشيء إذا بعد عن الحاسة جدا بطل ادراكها جملة، فان الإنسان إذا كان منك على خمسة اميال