بلا حكم وارد منه عنه تعالى بذلك، لكن بشهوات النفوس، لأنه قد حرم شيئا آخر يشبه هذا الذي تحرم أنت في بعض صفاته. بلى، ولقد لعن الله تعالى أناسا عصاة معتدين، لأفتراه يلعن كل إنسان لأنهم مثل أولئك الملعونين في انهم ناس وأنهم عصاة معتدون؟ وأحرق قوما لانهم خانوا المكيال، وأحرق معهم أطفالهم ونساءهم أفترى كل خائن للمكيال والميزان يحرق هو وولده وامرأته؟ إن هذا لهو الضلال البعيد.
ومن بديع ما يقع للمغرورين بهذا النوع الفاسد أنهم إذا أحبوا أن يبدوا لهم في هذا الحكم الذي حكموا به لم يصعب عليهم تركه، فيخرجون اشياء من المشتبهات عن حكم وجد في بعضها ويقولون: هذا خرج عن أصله وشذ، والشاذ لا يقاس عليه. ونحن نقول: لو كان هذا الحكم المشذوذ أصلا للشاذ لما شذ عنه ما شذ، ولا يجوز أن ينبعث فرع من غير أصله. ولو كان ذلك، لما كان الأصل أصلا للمتأصل به، ولا كان المتأصل متأصلا منه. ولا تظن أن من خالف صورة نوعه الجامعة له أنه شاذ نوعه وأصله فتخطئ. لأنك إذا علمت أنه لا يشذ عن أصله البتة، وان تلك الزوائد إنما هي من زيادة في مادة العنصر على مقدار ما يقوم منه الشخص التام فكذلك النقص أيضا، هو نقص من مادة العنصر. فهكذا تكون الأصول الصحاح.
ومثل هذا ما يستعمله النحويون في عللهم فانها كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة ألبتة. وإنما الحق من ذلك ان هذا سمع من أهل اللغة الذين يرجع اليهم في ضبطها ونقلها، وما عدا هذا فهو، مع انه [76 و] تحكم فاسد متناقص، فهو أيضاً كذب، لان قولهم كان الاصل كذا، فاستثقل فنقل إلى كذا، شيء يعلم كل ذي حس أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك.
وقد قال الخالق الأول قولا كفى كل ذي تعب إذ يقول تعالى: {قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين} (111 البقرة 2) ثم زاد بيانا فقال تعالى: {فان شهدوا فلا تشهد معهم} (150 الانعام: 6) ثم زاد بيانا فقال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (23 الانبياء 21) فالذي قلنا من تمييز العقل والحواس هو فعل الله عز وجل فلا يسأل لم كان ذلك، وما عداه ففعل