* رؤية الله:
يقول فى المجلس الثالث (جـ1 ص28-29) : "مسألة - اعلم بأن أصحابنا قد اعتمدوا فى إبطال ما ظنَّه أصحاب الرؤية فى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على وجوه معروفة، لأنهم بيَّنوا أن النظر ليس يفيد الرؤية، ولا الرؤية من أحد محتملاته، ودلُّوا على أن النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة: منها تقليب الحدقة الصحيحة فى جهة المرئى طلباً للرؤية، ومنها النظر الذى هو الانتظار، ومنها النظر الذى هو التعطف والمرحمة، ومنها النظر الذى هو الفكر والتأمل. وقالوا: إذ لم يكن فى أقسام النظر الرؤية، لم يكن للقوم بظاهرها تعلق، واحتجنا جميعاً إلى طلب تأويل الآية من جهة غير الرؤية. وتأوَّلها بعضهم على الانتظار للثواب، وإن كان المُنّتَظَر فى الحقيقة محذوفاً، والمُنْتَظَر منه مذكوراً على عادة للعرب معروفة. وسلَّم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر. وحمل الآية على رؤية أهل الجنَّة لنِعَم الله تعالى عليهم، على سبيل حذف المرئى فى الحقيقة. وهذا كلام مشروح فى مواضعه، وقد بيَّنا ما يرد عليه، وما يُجاب به عن الشبهة المعترضة فى مواضع كثيرة.
وههنا وجه غريب فى الآية، حُكى عن بعض المتأخرين، لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر، أو إلى تقدير محذوف، ولا يحتاج إلى منازعتهم فى أن النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها، بل يصح الاعتماد عليه، سواء أكان النظر المذكور فى الآية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين، وهو أن يُحمِل قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا} ، إلى أنه أراد نعمة ربها، لأن الآلاء النِعَم، وفى واحدها أربع لغات، ألَى مثل قفَى، وألِى مثل رمِى، وإِلى مثل معىِ، وإِلى مثل حِنى. قال أعشى بكر بن وائل:
أبيضُ لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رَحْماً ولا يخون إلِى
أراد أنه لا خون نعمة. وأراد تعالى: {إلى رَبِّهَا} ، فأسقط التنوين للإضافة؛ فإن قيل: فأى فرق بين هذه الوجه وبين تأويل مَن حمل الآية على أنه أراد به: إلى ثواب ربها ناظرة، بمعنى: رائية لنعمه وثوابه؟ قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف، لأنه إذا جعل "إلى" حرفاً، ولم يعلقها بالرب تعالى، فلا بد من تقدير محذوف، وفى الجواب الذى ذكرناه لا يُفتقر إلى تقدير محذوف، لأن "إلى" فيه اسم يتعلق به الرؤية، ولا يحتاج إلى تقدير غيره. والله أعلم بالصواب".
*
* الإرادة وحرية الأفعال:
وفى المجلس الرابع (جـ1 ص30-33) يقول ما نصه: "تأويل آية - إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين