وعنوا بالإِشارة (بهذا) التحقير، وغرضهم نفي أَن يكون ذلك من عند الله على أَبلغ وجه، وليس مرادهم الاستفهام حقيقة عن الحكمة.

(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ذلك: إِشارة إِلى ما قبله من معنى الإِضلال والهداية، أَي: مثل ذلك المذكور من الإِضلال والهداية يضل الله ويخزي الكافر لصرف اختياره حسب السمَّاع إِلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالهدي، ويهدي ويرشد المؤمن لصرف اختياره الحسن عند مشاهدة تلك الآيات.

(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ): أَي: وما يعلم جنود ربك وما عليه كل جند من العدد، والحكمة في كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عقد ناقص، لا يعلم ذلك إِلا هو سبحانه، ولا سبيل لأَحد إِلى معرفة ذلك، كما لا تعرف الحكمة في أَعداد السموات والأَرض وأَيام السنة والشهور والبروج وعدد الصلوات والركعات، أَو ما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إِلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، وهو يعلمها.

روي الترمذي أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَطَّت (1) السماءِ وحُقّ لها أَن تَئِطّ؛ ما فيها موضع أَربع أَصابع إِلا ومَلَك واضع جبهته لله ساجدًا" -ذكره القرطبي-.

قال الآلوسي: وهذه الآية وأَمثالها من الآيات والأَخبار تشجع على القول باحتمال أَن يكون في الأَجرام الأُخري جنود من جنود الله لا يعلم حقائقها وأَحوالها إِلا هو -عزَّ وجل- ودائرة ملك الله -جلَّ جلاله- أَعظم من أَن يحيط بها نطاق الحصر، أَو يصل إِلى مركزها طائر الفكر، وفي كل يوم تظهر لنا الكشوف عجائب وغرائب وبدائع من عجيب خلق الله وصنعه، وصدق الله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ).

واختلف في المخصص لهذا العدد -أَعني تسعة عشر- والذي مال إِليه أَكثر العلماءِ أَن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إِلا الله، وهو كالمتشابه يؤمن العبد به ويفوض علمه

-

(1) الأطيط: صوت الأقتاب - وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015