سورة الذاريات مكِّية، وآياتها ستون آية باتفاق، وقد بدأت بالقسم على تحقيق الوعيد الذي ختمت به السورة قبلها لرعاية التناسب بين ختام السورة السابقة وابتداء السورة اللاحقة.
ابتدأ الله - سبحانه وتعالى - السورة الكريمة بالقسم على صدق البعث وتحقيق وقوعه، ووقوع الجزاء - أقسم سبحانه - بمخلوقات من مخلوقاته لها آثارها الواضحة، وظواهرها الشاهدة، ومنافعها التي لا ينكرها أحد، ولا يجحد عقْلٌ فضلها على الإنسان والحيوان، والنبات، فإن الرياح تسوق الأمطار إلى جميع الأقطار، وتدفع السفن في البحار تحمل الأمتعة والأثقال والمسافرين، وتمخر عباب البحار، فتسهل كل صعب وتقرب كل بعيد، كل هذا مما يقع تحت العيان، ولا يستطيع أَن ينكره إنسان، كما أَن ما يتفاوت الناس فيه من أحوال وما يجرى عليهم من أحداث، وما يختلفون فيه من منازل وأرزاق مما يكون في الأبناء دون الآباء، أو في الآباء دون الأبناء، أو يحظى به العاجز الضعيف، ولا يدركه المتجبر العنيف، لا يكون إلاَّ بتقدير، وبتسخير من الحكيم الخبير.
وبعد أَن تؤكد الآيات أمر البعث والجزاء تكشف حال المنكرين للبعث والجزاء، وتسفه أقوالهم في الدنيا، وتصور مآلهم في الآخرة: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).
ثم تخلص الآيات من هذا وذاك إلى المتقين فتشيد بما ينتظرهم في الآخرة من جميل النعيم في جنَّات وعيون، لقاء أعمالهم الصالحة في الدنيا من طاعة الله، والسهر في عبادته، والإنفاق الدائم في سبيله، متوخين الإحسان في كل أعمالهم، وسائر أحوالهم: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).