وقال ابن كثير: "وراءَ" هنا بمعنى أَمام، كقوله تعالى: "وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" (?). وكان ابن عباس يفسرها بذلك؛ وسواء فُسرت وراءُ بهذا أَو بذاك فالمقصود أَنهم يلقون عقابهم في جهنم يوم القيامة فهي، أَمامهم يستقبلونها وهى خلفهم بعد انقضاءِ حياتهم، والمعنى: من ورانه جهنم يلقاها ويسقى فيها من ماءٍ يشبه الصديد الذي مر بيانه في المفردات، ويجوز أَن يكون من الصَدِّ بمعنى الإِعراض، أَن يسقى من ماء كريه يعرض عنه، ويصف الله سبحانه وتعالى هذا الماء الذي لا يستساغ فيقول جل شأْنه:

17 - (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ ... ) الآية.

أَي يتكلف الجبار العنيد جرعه وبلعه مرة بعد أَخرى فلا يقرب من استساغته، ولا يسهل عليه بلعه لحرارته ومرارته. وقيل إِن المعنى: لا يقارب أَن يدخله في جوفه قبل أَن يشربه فيُسقاه على الرغم منه قهرًا وقسرًا، أَخرج أَحمد والترمذي والنسائى والحاكم -وصححه- وغيرهم عن أَبي أمامةَ عن النبي صلى الله عيه وسلم أَنه قال في الآية: (يُقَرَّب إِليه فيتكرّهه فإِذا أُدنى منه شَوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإِذا شربه قطَّع أَمعاءَه حتى يخرج من دُبُرِه) يقول الله تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (?). وتستمر الآية في وصف عذاب الجبار العنيد وذلك في قوله تعالى:

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): أَي ويأْتيه أَسباب الموت من الشَّدَائِدِ وأَنواع

العذاب من كل موضع، والمراد أَنه يحيط به من جميع الجهات، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل من كل مكان في جسده حتى أَطراف شعره وإبهام رجله، "وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ" فيستريح بالموت. بل إِنه لا يخفف عنه العذاب في وقتٍ مَّا، كي ينفس عن نفسه بعض الكرب كما قال تعالى: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (?). وكما قال عز وجل: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (?). فهم مخلدون في جهنم يستقبلون في كل وقت عذابا أَشد وأَشق مما كان

طور بواسطة نورين ميديا © 2015