كما طلبوا، فإِن العقل البشرى قد شب عن الطوق، والذى كان آية للأُمم السابقة، لا يصلح آية لأَمة محمد التي فتح القرآن لها أَبواب العلم، وكشف لها آفاق المعرفة فلم يعد يفيدها ناقة تخرج من الصخر، ولا يد تخرج من الجيب بيضاءَ من غير سوءٍ، ولا إِبراءِ الأَكمه والأَبرص وإِحياء ميت أَو ميتين، فكل ذلك لا يساوى إِحياءَ القلوب باليقين، وتنوير العقول بأَشعة المعرفة، ووضع المنارات على الطريق ليهتدى بها الناس إِلى الحق سبحانه وتبرئته من الشريك والنظير، وتنزيهه عن الصاحبة وعن الولد، وليهتدوا بها إِلى أَسرار الملك الملكوت، فيعملوا للدنيا في حدود ما هو حلال لهم، ولا عليهم من بأْس أَن يتوسعوا في نعمه وزينته والطيبات من الرزق ما داموا يؤدون حق الله وحق المجتمع فيما رزقهم ربهم، ويعملوا للآخرة، حيث لا ينفعهم مال ولا بنون، إِلا من أَتى الله بقلب سليم.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأنْبيَاءِ نَبِىّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الآياتِ مَا مِثلةُ آمَنَ عَلَيْهِ البشر، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوحَاهُ اللهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
ومن مميزات معجزة القرآن أَنها باقية ما بقى الزمان. بخلاف معجزات الأَنبياءِ السابقين، فقد أَصبحت خبرًا بعد عين، وعرضة لإِنكار المنكرين وتكذيب المكذبين.
(إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ):
أَي ليس من شأْنك يا محمَّد أَن تقترح علينا الآيات، أَو تبلغنا اقتراح قومك لها، فما أَرسلناك إِلا لإِنذار الكفار سوءِ عاقبة ما هم عليه من الكفر، وقد أَيدناك بما يكفي الاستدلال به على نبوتك لمن كان له قلب أَو أَلقى السمع وهو شهيد، وهو القرآن العظيم، فما أَنت إِلا منذر لهم ولكل قوم كافرين، بما جاءَ فيه من القوارع والنوائب التي تحل بهم إِن أَصروا على كفرهم، وهاد مرشد إِلى طريق السلامة في الدنيا والآخرة بما جاءَ فيه من الآيات، فإِن سلكوه كانت غايتهم السلامة والسعادة الأَبدية، وإِن أَعرضوا عنه كانت غايتهم الندامة والشقاوة الأَبدية، فلا تكترث باقتراحهم الآيات عنادًا، فلكل أُمه رسولها مؤيدًا بالآيات اللائقة بها.