بالكفر.
يدل على هذا قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107] أي: ذلك الشرح، وذلك الكفر بأنهم أحبوا الدنيا، واختاروها على الآخرة، وبأن الله لا يريد هدايتهم.
ثم وصفهم بأنهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} [النحل: 108] الآية، وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108] قال ابن عباس: غافلون عما يراد بهم.
ثم حكم لهم بالخسارة وأكد ذلك، فقال: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [النحل: 109] قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {110} يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {111} } [النحل: 110-111] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110] نزلت في المستعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة، عذبوا في الله، وأريدوا على الكفر، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، وهاجروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعدما فتنوا، وقال ابن عباس: من بعد ما عذبوا.
ثم جاهدوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبروا على الدين والجهاد، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النحل: 110] من بعد تلك الفتنة، وتلك الفعلة التي فعلوها من التلفظ بكلمة الكفر، لغفور رحيم وقرأ ابن عامر فتنوا بفتح الفاء، والمعنى: من بعدما فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتقية، وجعل ذلك فتنة، لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد.
قوله: يوم تأتي أي: ذكرهم يا محمد يوم تأتي، {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] هذا يوم القيامة كل أحد لا يهمه إلا نفسه، فهو مخاصم ومحتج عن نفسه، لا يتفرغ إلى غيره.
531 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، نا عَيَّادُ بْنُ كُلَيْبٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِكَعْبِ الأَحْبَارِ: يَا كَعْبُ، خَوِّفْنَا، حَدِّثْنَا حَدِيثًا تُنَبِّهُنَا بِهِ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ وَافَيْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لأَتَتْ عَلَيْكَ تَارَاتٍ، وَأَنْتَ لا يُهِمُّكَ إِلا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً لا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلا وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَيُدْلِي بِالْخُلَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَا خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ، لا أَسْأَلُكَ إِلا نَفْسِي.
وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ، أَمَا سَمِعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] .
وَقَوْلِهِ: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] أَيْ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] لا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا.
قوله: {