إن إيجاب الجهاد على الأمة يختلف بحسب الأحوال والظروف والحاجات، ففي وقت الشدة والأزمة الخانقة والخطر المحدق يكون الجهاد فرضا عينيا، وفي وقت قلة المؤمنين في بدء إيجاد الأمة والدولة يكون أيضا فرض عين. فإذا زالت الظروف الخطرة المحدقة وكثر المؤمنون، واستقرت الأحوال وهدأت البلاد، صار الجهاد فرض كفاية على فئة من الناس، وكان على الباقين مناصرتهم، والتفرغ لشؤون الحياة، والاسهام في إقامة صرح المدنية والحضارة، من طريق تنمية العلوم والمعارف، وازدهار الحقل العلمي بالمتابعة والتأمل والتجربة والتجديد. قال الله تعالى مبينا هذه الأصول الحضارية ولفت النظر لأهمية العلم:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
«1» «2» [التوبة: 9/ 122- 123] .
نظّمت هذه الآية أحوال الجهاد، ونبهت إلى ضرورة طلب العلم والتفقه في أحكام الدين والشرع.
وسبب نزولها: أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع، لما سمعوا قول الله عز وجل: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.. أهمهم ذلك، فنفروا إلى المدينة، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو، فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك.