وقال: نَعْبُدُ بنون الجماعة ولم يقل أعبد، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون في جماعة المؤمنين، وللإشعار بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شئونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم، فهم كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» .
وقدمت العبادة على الاستعانة، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية. وتقديم الوسائل سبب في تحصيل المطالب، وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون الله هو الذي ييسر لهم أداءها.
ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإنسان من الأعمال الصالحة.
وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب. وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان. وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم ... وذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه. لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد: وقد تختص مواضعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء وغاية للخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة والاستعانة، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه ... » (?) .
هذا، وقد جاءت في فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة، ومن ذلك قول بعض العلماء:
الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله» (?) .
ثم بين- سبحانه- أن أفضل شيء يطلبه العبد من ربه، إنما هو هدايته إلى الطريق الذي يوصل إلى أسمى الغايات، وأعظم المقاصد، فقال- تعالى-:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ،