وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه سبحانه أول كل شيء وآخر كل شيء، ولكي يعلمنا- سبحانه- أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها، وتجلو عن القلوب أصداءها.
والمعنى- كما قال ابن جرير- «الشكر خالصا لله- جل ثناؤه- دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد. ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، عن غير استحقاق لهم عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا (?) .
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله- تعالى- وإنه ليس لأحد أن ينازعه إياه- سبحانه- هو رب العالمين.
وجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ مفيدة لقصر الحمد عليه- سبحانه- نحو قولهم: «الكرم في العرب» .
كما أن أل في «الحمد» للاستغراق. أى: أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين.
وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه.
ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال: احمدوا الله، وإنما افتتحت بصيغة الخبر الْحَمْدُ لِلَّهِ، لأن الأمر يقتضى التكليف: والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانا، فأراد- سبحانه- وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهدوها، أن يؤنس نفوسهم، ويؤلف قلوبهم، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر، ترفقا بهم، حتى يديموا الإصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف.
وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ، دون قوله- تعالى-: المدح لله، أو: الشكر لله. فقال:
اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.