يعصون الله فيه، وهاجر منه بجسده وبنيَّته وقلبه - جمعًا بين التفاسير - كما قال تعالى في سورة مريم حين قال إبراهيم لأبيه وقومه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 48، 49].
فكأفاه الله سبحانه حين فاصلهم والتزم منهج الحق ولم يخالطهم في مجالس المعصية والاستهزاء بالله، أن جعل النبوة في ذريته فآنسه بعد وحشته وفي غربته، إذ آثر الغربة والحق على الالتقاء بهم والسكوت على باطلهم. فكان كرم الله عليه عظيمًا إذ أمَدّه بخير الأنس وأفضل الجلساء وهم الأنبياء جعلهم في ذريته وأحيا بهم ذكره ومواقف إيمانه.
وجميل ما ذكر القاسمي رحمه الله في التفسير حيث قال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال: قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصّه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحسن من قومه العداوة الشديدة، هاجر، فلأن يجب على غيره، بالأولى).
قلت: وهذا من أروع الكلام والتفسير، وقد حفلت به نصوص القرآن والسنة:
1 - قال تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140].
فاعتبر سبحانه استمرار الجلوس ومتابعة القعود مع القوم وهم يستهزئون بالله وآياته ورسله ودينه وشرعه نفاقًا يحشر صاحبه معهم، ويصبح مثلهم.
2 - قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68].
3 - أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه - يعني لما وصلوا الحِجْر - ديار ثمود فيما بين المدينة والشام: [لا تدخلوا