وفى قوله تعالى: «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» أي أنها عين تتفجر دائما كلما أرادوا أن يشربوا من خمر هذه العين.. فما هى إلا همسة خاطر حتى تنبع العين، ويتفجر منها الخمر، على هيئة كئوس تتناولها الأيدى من قريب.
وفى تعدية الفعل «يشرب» بحرف الجر «الباء» مع أنه يتعدى بنفسه أو بحرف الجر «من» فيقال شربت اللبن، أو شربت من اللبن- فى تعدية هذا الفعل بالباء، إشارة إلى أن العين التي يشرب منها عباد الله، هى خمر وكأس معا، وأنهم إذ يشربون بهذه العين التي هى خمر، يشربون الخمر ذاتها.. وهذا يعنى أن هذا الشراب الذي ينبع من تلك العين، لصفائه، ورقته، وشعشعة أضوائه- قد امتزج بالكأس، فصارا معا كيانا واحدا، لا يدرى الناظر إليهما، أينظر إلى كأس أم إلى خمر.. فكلاهما أصفى من الهواء، وأرق من الشعاع.. وإلى هذا المعنى يشير أبو نواس فى قوله:
رقّ الزجاج ورقت الخمر ... وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، إنما لمحناه من قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» حيث عدل النظم القرآنى عن تعدية الفعل «يشرب» إلى أداة الشرب بالباء، كما هو المألوف، إذ يقال شربت بالكأس وبالكوب، وعدى إلى تلك الأداة بمن.. ثم جاء قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» فعدل عن تعدية الفعل إلى مادة الشراب بحرف الجر من، إلى تعديته بحرف الجر الباء «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» .. وبهذا أحلّ النظم القرآنى مادة الشراب (العين) محلّ الكأس، على حين أقام الكأس مقام العين! .. وبهذا تبدو الصورة هكذا..