وقد جاء النظم القرآنى على نسق يخالف ما يجىء عليه النظم الكلامى..
فلم يلتزم القرآن الترتيب الذي يردّ الإعجاز على الصدور- كما يقول أهل البلاغة- إذ كان من مقتضى هذا أن يجىء النظم هكذا: وما يستوى الأعمى والبصير، ولا المسيء والمحسن.. ولكن جاء النظم القرآنى كما ترى.. فقدّم الأعمى على البصير، ثم عاد فقدم المحسن على المسيء فلم تقع بذلك المقابلة المطلوبة عند علماء البلاغة حيث يقتضى النظم عندهم، أن يقدّم المسيء على المحسن، ليقابل المسيء الأعمى، والمحسن البصير..
وهذا التدبير من النظم القرآنى يخفى وراءه أسرارا، ولطائف، هى من بعض الدلائل على إعجازه..
فمن بعض هذه الأسرار هنا، هو أن القرآن قد جمع بين البصير، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى لكأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الامتداد الطبيعي لهذا البصير.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» .. فهذا هو أصل القضية: الأعمى والبصير.. ثم مع البصير كان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنهما طبيعة واحدة.. إذ قلّ أن تكون بصيرة لا يتبعها إيمان وعمل صالح.. وهذا هو السر فى التعبير بالبصير دون المبصر..
أما الأعمى، فقد يكون أعمى عين، فهو من جهة النظر لا يستوى مع المبصر.. وقد يكون أعمى قلب، فلا يهتدى إلى هدى.. وهو من هذه الجهة لا يستوى مع صاحب البصيرة..
ولهذا لم يقترن المسيء بالأعمى، ولم يقابله مقابلة توافق، وتوازن.. إذ ليس مع كل عمى إساءة، وإنما تكون الإساءة مع عمى البصيرة.. ومن هنا