الكريم نزل منجما أي مفرقا، يدل على هذا شاهد التاريخ، كما يدل عليه هذا اللفظ «نزّل» الذي يفيد الحركة والتفرق، بخلاف «أنزل» الذي يدل على الثبوت والوحدة.
ثانيا: قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» لم تذكر الكتب التي بين يدى القرآن، وإن كان المراد بها التوراة والإنجيل، وذلك الإطلاق إنما ليشمل جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء جميعا. ما بقي منها وما لم يبق، وما ذكر وما لم يذكر، لأنها جميعها من مورد الحق، يصدّق بعضها بعضا.
وإذا نظرنا إلى الكتب المنزلة، حسب واقعها التاريخىّ نجد أن القرآن الكريم هو الذي بين يدى الكتب السماوية، وليست هى التي بين يديه، لأنه جاء إلى هذا الوجود تاليا لها، لا سابقا عليها.
ولكن الكتب السماوية ليست أحداثا حادثة، وإنما هى وقائع فى علم الله، موجودة من الأزل، شأنها شأن جميع ما فى علم الله، وظهورها وانكشافها لنا يجىء موقوتا بإرادة الله مقدورا بحكمته.. ففى سير الأحداث من سجل الغيب وظهورها على مسرح حياتنا، نجد أن الكتب السماوية جميعها تقدمت القرآن الكريم، واحدا واحدا، والسابق منها بين يدى اللاحق، وبهذا التقدير تقع جميعها بين يدى القرآن! وليس الأمر كذلك فى حركة التاريخ، حيث تطوى الأحداث التي تجدّ، فكل حدث جديد فى هذه الحركة يمشى على آثار الحدث الذي مضى، ويخلّفه وراءه..
وحركة الزمن ليست على تلك الصورة، إنها حركة واحدة، أشبه بحركة القطار.. والأحداث محمولة على جزئيات هذا الامتداد الزمنى، كما يحمل الأشخاص والأشياء فى عربات القطار، والمتقدم منها يظل دائما متقدما بين يدى المتأخر!