لدعوة الرسل حكمة، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين، فيستجيب لهم من يستجيب، ويقيم على كفره من حقّ عليه القول منهم.. أما تيئيس الكافرين مطلقا، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا، فذلك بعيد عن حكمة الله فى ابتلاء الناس واختبارهم، وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم.. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (42: الأنفال) .
وقوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» هو كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا، بما قام فى كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز، فقد «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» .. والختم على الشيء وضع خاتم عليه، أشبه بالقفل المحكم، بحيث لا ينفذ إليه شىء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» .
(24: محمد) «وَعَلى سَمْعِهِمْ» أي وختم على سمعهم، فالواو هنا للعطف على قوله تعالى:
«خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» والختم على السمع: الضرب عليه بحجاب، فلا تنفذ منه دعوة الحق إلى موطن الإدراك من العقل، فهم أشبه بالنائم المستغرق فى نومه، حواسه كلها سليمة، ولكنها معطلة لا تعمل فى تلك الحال.. كما يقول سبحانه وتعالى فى أصحاب الكهف: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» .
(11: الكهف) .
«وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» .. أي أن أبصارهم لا ترى الأشياء رؤية واضحة، بل تبدو المرئيات لها مهزوزة غائمة، تضطرب فى مجال الرؤية، فلا يعرف الرائي حقيقة ما رأى.