قبلوا على أنفسهم هذا القول، وبين أيديهم أكثر من شاهد يشهد ببنوة هذا الابن إلى نوح، بنوّة حقيقية لا لبس فيها.. وأنه إذا كان من الممكن حمل الألفاظ على غير محاملها، ونقلها من الحقيقة إلى المجاز، فإنه من غير الممكن أن يكون ذلك بالنسبة للعواطف الإنسانية، التي تحكمها صلات النسب، كالبنوّة، والأبوة، والأخوة ونحوها، والتي تحتل عاطفة الأبوة المكان المكين منها؟.
فهذا «نوح» لا ينسى ابنه الغارق، مع أنه كان من المخالفين له، الخارجين على طاعته، المكذبين له، الكافرين بالله.. ولكنها عاطفة الأبوة المتأججة، التي لا يطفىء وقدتها ما يكون من الأبناء من عقوق، وما يكون فيهم من انحراف، واعوجاج! وإن الابن ليكون على حال من السوء والسّفه، حتى ليلفظه المجتمع كله.. ولكن عاطفة واحدة تظل ملتحمة به، متّسعة لقبوله على ما هو عليه، أيّا كان هذا الذي هو عليه.. من سوء وسفه.. تلك هى عاطفة الأبوة.. الممثلة فى الأبوين معا.. الأب والأم..
فكيف يسوغ بعد هذا لقائل أن يقول فى ابن نوح إنه ليس ابنا حقيقيا له؟ لقد كانت امرأة نوح من الجبهة المناوئة له، الخارجة على دعوته، الكافرة بالله، وقد أغرقها الله مع من أغرق من قوم نوح، فلم يأس عليها نوح، بل ولم يلتفت إليها، وقد جرفها التيار، واحتواها الموج.. فكيف يأسى على ابنها ويمسك به، ويشدّه إليه؟ ثم كيف يعود إلى ربه باكيا متوجعا، يطلب العزاء والسلوان.؟
«وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» - وفى قول نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى، لنوح: «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ